Saturday, August 25, 2012

حوار الكفاءة والثقة


التقيت به وهو أحد أعضاء حزب جديد أنشأ من بعد الثورة، ذكرت له افتقادي له، فلي مدة لم أره فيها، وسألته عن المانع متمنياً أن يكون خيراً، فأجابني وهو يشكو زحام المسئوليات وكثرة التكاليف الملقاة على عاتقه في الحزب، ذاكراً لي بعضاً من مهامه والمكلف بها داخل المحافظة والتي تقريباً يقوم بها كلها وحده.

سألته عن سبب تركيز كل هذه المهام والملفات في يد رجل واحد وظني بالقائمين على الحزب أنهم لو أرادوا لوجدوا لكل ملف من هذه الملفات أكثر من شخص قادر على حمله والتفرع له وصب كل تركيزه فيه، وتماديت فاقترحت عليه أن يقوم هو بالبحث بنفسه عن هذه الكوادر المناسبة واختبارها وتأهيلها وتقديمها وتصعيدها لمساعدته في مهامه أولاً، وليخلفوه فيها إن عرض له عارض يعوقه عن انجاز مهامه ثانياً، فأجابني أنه حتى لو فعل ذلك فإن عمله هذا لن يلق قبولاً لدى قيادات الحزب ومسئوليه، لأنهم يخشون "سرقة الحزب" منهم.

أظهرت عدم فهمي لما يقول وطلبت منه التوضيح، فقال لي الحزب لا يزال في طور البناء ويسهل جدا أن ينضم إلى الحزب أعداد كبيرة من توجهات مختلفة وينخرطوا في لجان العمل فيه، ثم إذا أجريت انتخابات داخلية صعد تيار مختلف فكرياً ومنهجياً مع أفكار مؤسسي الحزب، ليجد مؤسسو الحزب أنفسهم مهمشين أو خارج الحزب، ويسيطر على الحزب هذا التيار الجديد بأفكاره الخاصة وقد حصل مثل هذا في حزب كذا، فيكون الحاصل أن مؤسسي الحزب الذي تحملوا الكثير من أجل أن يقف على قدميه ويحقق سمعة طيبة وانتشاراً واسعا قد قدموه على طبق من فضة لغيرهم وتنازلوا عنه طواعية لمن لم يبذل ما بذلوه من أجل هذا الحزب.

وعليه فإن قادة الحزب ليحافظوا عليه يقدمون مبدأ الثقة في هذه المرحلة على مبدأ الكفاءة ويرون أن تركيز الملفات في يد من يثقون بهم أفضل من توسيع قاعدة الكوادر لتضم أصحاب كفاءة ممن لا يحوزون علامة الثقة الكاملة أو يوجد اختلاف معهم في بعض المسائل.

فهمت الإشكالية التي يشرحها صاحبنا، وسكت واحترت، لا استطيع أن ألوم حزبه على طريقة تفكيره العقيمة، فهذا المنهج يطغى على إدارة كل كيان في مصر لا استثني أحد، فالتصعيد والترقية وإسناد الملفات الهامة لا يكون إلا لمن نضمن ولائه لنا أولاً وقبل النظر في كفائته من عدمها أو مناسبته دون غيره للمكان المرشح إليه.

هذه ليست مشكلة أحزاب، هذه عقائد تربينا عليها في كل نواحي حياتنا منذ أن سيطر فكر الإدارة العسكرية على البلاد وكرس الولاء للقيادة وجعل الطاعة العمياء معياراً للترقي ودليلاً على الجدارة، فصار إقصاء المخالفين مهما بلغوا من الكفاءة وتقريب أصحاب الثقة وتصعيدهم - وإن قلت أو انعدمت كفاءتهم - منهجاً متبعاً في كل مؤسسات ومكونات البلاد.

نحن نفعل ذلك بشكل معتاد رغم ادعائنا عكس ذلك بل ونوجد لفعلنا المبررات المنمقة، كزعمنا الحتمية والضرورة لإيجاد التقارب والتآلف بين أفراد فريق العمل الواحد لأنجاز المهام وكأننا نقبل على علاقة زواج أو علاقة شخصية لا على علاقة عمل ورغم أننا لا نتعامل بالحدود الدنيا لهذا التقارب المطلوب.

لا اتحدث فقط عن الوزارء الذين كانوا يعينون تبعاً لولائهم للنظام خاصة مع غياب الكفاءات التي تستحق، ولا اتحدث فقط عن المحافظين أو رؤساء الاحياء الذين يتم اختيارهم من أصحاب الرتب العسكرية العالية المتقاعدين المضمون ولائهم للنظام، بل اتحدث عنا نحن الذين إذا أتيح لأحدنا الفرصة لتكوين فريق عمل فسيختار من يثق فيه ويستطيع السيطرة عليه، ولا يتخطاه وسيجعل الكفاءة في المرتبة الثانية أو الثالثة في قائمة معايير الاختيار حتى لا يظهر نقص فيه بغض النظر عن ملصحة العمل. اتحدث عنا لما كنا صغاراً نلعب كرة القدم وكان كل قائد فريق يختار فريقه حسب صداقته له وقربه منه قبل أي شيء. اتحدث عن الداء الذي وصل حتى إلى الجماعات الدعوية فمن نشأ في كنفنا فهو منا ومن لم يكن كذلك لا يمكن أن يرتقي لنا منبراً ولا أن يتقدم لنا في محراب.

فإذا كان هذا هو حالنا من صغيرنا لكبيرنا في دقيق شأننا وعظيمه، فلماذا إذن ألوم أحزاب ناشئة تتلمس طريقها ؟ وكيف اقنع صاحبي أن الفكرة الصحيحة لا تخشى من مخالفيها ولا تخشى من الأغلبية لأنها تبقى وإن كانت وحيدة، وخسارة حزب أو مركز لا تعني خسارة المبادئ فما الحزب إلا وسيلة لنشر الأفكار ومنبراً لإعلاء المبادئ وخسارة المنبر أفضل من إضاعة المبادئ نفسها باعتماد تقديم الخطأ على الصواب، ومجاراة الطغاة في أساليب إدارتهم البالية.

في أخبار غزوة ذات السلاسل ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد تأديب قضاعة لقتلها أصحاب رسول الله ومعاونتها أعدائه في مؤتة وما ورد من أخبار عن تجهزها للهجوم على المدينة، فاختار صلى الله عليه وسلم سرية تقوم بهذه المهمة من خمسمائة من المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وأبي عبيدة بن الجراح الذي مر على إسلامهما قرابة العشرون عاما وعمر بن الخطاب الذي يقاربهما في مدة إسلامه وأمّر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الجيش عمرو بن العاص رضي الله عنه ولم يكن مضى على إسلامه أكثر من أربعة شهور، وجاء في ذكر سبب اختيار عمرو رضي الله عنه على حداثة إسلامه أنه بالإضافة إلى كفائته العسكرية كان الأنسب للمهمة إذ أن أخواله من (بلي) أحد فروع قضاعة وهو أدرى بالطريق وبديارهم ولعل صلة القرابة تكون مفيدة إذا دخل في تفاوض معهم، كذلك إذا مر على أخواله من (بلي) قد يعينوه بمدد يعينه في حربه.

ويبدو أن عمرو بن العاص رضي الله عنه لم يكن قد اعتاد بعد طريقة النبي في إدارة الأمور وظن أن القيادة والمهام تسند تبعاً للقرب لا للكفاءة فظن أن تقديم النبي صلى الله عليه وسلم له على جيش من المهاجرين والأنصار علامة على أن النبي صلى الله عليه وسلم يحبه أكثر من غيره، لذلك لما ولاه هذا الجيش ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ :عَائِشَةُ. قُلْتُ: مِنْ الرِّجَالِ. قَالَ: أَبُوهَا. قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: عُمَرُ. فَعَدَّ رِجَالًا فَسَكَتُّ مَخَافَةَ أَنْ يَجْعَلَنِي فِي آخِرِهِمْ.

في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: بينما النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مجلسٍ يُحدِّثُ القومَ، جاءه أعرابيٌّ فقال : متى الساعةُ ؟ فمضى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحدِّثُ، فقال بعضُ القومِ : سمِع ما قال فكَرِه ما قال. وقال بعضُهم : بل لم يَسمَعْ. حتى إذ قضى حديثَه قال: أينَ - أراه - السائلُ عن الساعةِ. قال: ها أنا يا رسولَ اللهِ، قال: فإذا ضُيِّعَتِ الأمانةُ فانتظِرِ الساعةَ. قال: كيف إضاعتُها ؟ قال: إذا وُسِّد الأمرُ إلى غيرِ أهلِه فانتظِرِ الساعةَ.