Sunday, September 11, 2016

إليك عني



أقول دائماً لزملائي المبرمجين أنه أيا كان ما صعب عليك تنفيذه، ومهما كانت معضلتك فهناك يقيناً من مر من قبل بنفس مشكلتك. ومثلك جرب عدة محاولات لحلها، حتى إذا انسدت أمامه الأبواب وانتهت حيله توجه إلى منتديات ومواقع الحلول وشكى في العالم السيبراني ما استعصى عليه وسرد تجاربه والتمس عند غيره حلولاً أخرى. أقول لهم أنه وفي الغالب سيجد عند الآخرين الحل أو على الأقل سيفتحون أمامه طريقاً آخر لتحقيق ما يريد. فكل ما علينا هو أن نستوفي محاولاتنا لتجاوز المشكلة، ولا نعجب بذواتنا ورأينا بل ننمي لدينا مهارات البحث في تجارب الآخرين والاستفادة منها.

أنت تظن أن مشكلتك فريدة، وحالتك مميزة، ومأساتك عظمى، لكن الحقيقة أنها ليست كذلك. كل مشاكلك الكبرى مرت بغيرك بكافة تفاصيلها وربما أصعب. ومثلك هم تعاملوا في هذه الشدة وهذا الابتلاء مع الله. بعضهم سخط وتحسر وأوقف الحياة فأغضب الله، وبعضهم رضي وصبر وأرضي الله فتعلم من هؤلاء واترك حيلك النفسية، لأنه وببساطة كل هذا سيمر وينتهي، ولن يبقى منه إلا خبرة عنك يذكرها الآخرون إذا مروا بما مررت به، ولن يبق لك إلا رضى الله تعالى أو سخطه.

أنت تظن أنك تتحمل في بلواك ما لا يراه الأخرون، وأن هؤلاء الحالمون الناصحون يعيشون في عالم وردي يطرقعون أصابعهم لا يدركون أبعاد وحقيقة مشكلتك لذلك فهم غير قادرين على استيعاب مبررات أفعالك وتصرفاتك الخاطئة / الحرام / المبالغ فيها لأنهم وبالمنطق لا يمرون بما تمر به، وتتعجب أنهم لا يلتمسون لك العذر على سوء خلق أو ضرر تسببت لهم فيه لأنك منشغل بمصيبتك.

غارق أنت في الاعتقاد بما يتمثل به عموم البكائين من حكم وأمثال "اللي إيده في الميا مش زي اللي إيده في النار" و "إللى ياكل الضرب مش زى اللى يعده"، أو تصبغ اعتقادك صبغة دينية فتتمثل بقول عمرو بن ذر رحمه الله "ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة". المهم أنه ليس هناك من يشعر بك ولا بحقيقة مشكلتك، وبالتالي فلك مطلق الحق فيما تفعل وستفعل وتتخذ من قرارات وإن أضرت من حولك، لأنهم بظنك إذا مروا بما أنت فيه لفعلوا أكثر مما فعلت. دعني أقول لك أنك بكل هذا ساخط على قضاء الله تحتال لنفسك لتصد عنها النصاح ونصحهم، وتبقى نفسك في منطقة الحسرة والعجز المهلك الغير مفيد، تعين الشيطان عليك فيزين لك كل حيلك النفسية ليبقيك في دائرة الحزن والألم.

عندما مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تبكي عند قبر قال لها: "اتقي الله واصبري". هذا يقيناً أنفع لها وهو كل ما تحتاجه هي عند مصيبتها، لا تحتاج النواح ولا العويل، لا تحتاج لإيقاف الأحداث، ولا إلى تغيير مجريات الأمور. لا تحتاج عزلتها عند المقابر ولا إلى قرارات الانقطاع عن الحياة وإبعاد الآخرين وصدهم بدعوى المصاب الجلل. وقطعاً لا تحتاج تنهدات الأخرين ولا شفقتهم على حالها، كل ما تحتاجه هنا هو أن تتقي الله وتصبر وتكمل رحلة الحياة، وكل هذا سيمر وستتغير الحال بإذن الله فكما قال الشافعي رحمه الله: ولا حزن يدوم ولا سرور، ولا بؤس عليك ولا رخاء.

لكن المرأة – ولم تكن تعرف النبي صلى الله عليه وسلم – ردت على من نصحها مخلصاً: "إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي" ! وكأن الناصح المخلص لابد أن يمر أولاً بمصائبنا كي نقبل نصحه ونقتنع بإخلاصه فيه. فيا ويلك إن أردت الخير للناس فلابد عندها أن تغمس في المصائب غمساً، وتنال شهادتك الجامعية من كلية الابتلاءات والشدائد لتكون مقنعاً للمصاب وليقبل منك المبتلى نصحك.

تنصح شاب لم يتزوج فيقول لك: أنت متجوز لا تعلم ما يعانيه الشباب من فتن هذه الأيام .. إليك عني إنك لم تصب بعذوبيتي. وتنصح زوج بما يصلح بيته فيقول لك: ما أنت مش متجوز بكرة نشوف يا عم حتعمل إيه .. إليك عني فأنت لم تتزوج بزوجتي. وتنصح أم بمراعاة ما تربي أولادها عليه وقد جعلت التلفزيون لهم مربياً للتخلص من إزعاجهم فتقول لك: ما انت مش قاعد معاهم 24 ساعة .. إليك عني إنك لم تصب بأولادي. و صاحب عيال تذكره بالتوكل على الله وترك الخوف والهلع في طلب الرزق فيقول لك: ما أنت مش متعلق في رقبتك أربع عيال وأمهم .. إليك عني إنك لم تنجب أولادي. ومديونا بكثرة الاستغفار والبعد عن الحرام فيقول: الاستغفار حلو لكن لازم حل !! .. إليك عني إنك لم تدن مثلي. ومريضاً بالرضا والصبر فيقول: لو تمر بربع ألآمي ما صبرت. وهكذا الكل يقتدي بالمرأة ويقول بقولها "إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي" ولكن بطريقته الخاصة وبما يوافق مشكلته. وكأن هذا هو المقصود من الحديث وليس النهي عن التكلف والاستغراق في الحزن والتذكير بمعنى وقيمة الصبر عند الشدائد.

ثم هناك أمرا آخر كأننا نقتدي فيه بهذه المرأة. هي على القبر تبكي ومر بها رجل لا تعرفه يقول لها مخلصاً: "اتقي الله واصبري" فتقابل أمره ونصيحته العظيمة بالجمود والجفاء وتردها لحجة تراها هي وحدها حقيقة واقعة. ثم لما عرفت أنه رسول الله أسرعت إليه تعتذر قائلة: "لم أعرفك" ! لم تعرفيه لكن عرفتي نصيحته. فهل يختلف النصح إن صدر من قريب أو بعيد، هل يختلف إن صدر من مشهور أو مجهول، فالنصح قيمته في محتواه لا فيمن صدر عنه، والحكمة مأخوذة لا يضرك من أي وعاء خرجت.

يحكى أن رجلاً وجد أعرابياً عند الماء فلاحظ الرجل حمل بعيره فسأله عن محتواه، فقال الأعرابي: كيس يحتوي على المؤنة والكيس المقابل يحتوي تراباً ليستقيم الوزن في الجهتين. فقال الرجل: لما لا تستغني عن كيس التراب وتنصف كيس المؤنة في الجهتين فتكون قد خففت الحمل على البعير. فقال الأعرابي صدقت. ففعل ما أشار إليه ثم عاد الأعرابي يسأل الرجل: هل أنت شيخ قبيلة أم شيخ دين ؟ فقال الرجل: لا هذا ولا ذاك بل رجل من عامة الناس. فقال الأعرابي: قبحك الله لا هذا ولا ذاك ثم تشير علي. ثم أعاد حمولة البعير كما كانت.

نحن نفعل مثل هذا الأعرابي فنشترط فيمن ينصحنا حالة وشروطاً ومواصفات لنقبل منه نصحه، إما أن تكون هذه الصفات سلبية فنريده مصاباً ببلاء وكرب يتماشى مع ما نمر به من مصاب، أو صفات إيجابية مثل أن يكون وجيهاً شريفاً ذو منصب مرموق. ونحتال في التدقيق في صفات الناصح وحاله بالصورة التي توفر لنا طريقاً آمنا للهروب من التزام ما يقول.

دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على أعرابي يعوده وقال له: لا بأس طهور إن شاء الله. فقال الأعرابي: قلت طهور ؟! بل هي حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فنعم إذا.

وهكذا .. أنت وما أردت، أنت وما طلبت.