Sunday, April 14, 2013

بين ابن تاشفين والمعتمد



لست قاضياً أحكم على هذا أو ذاك ولا محدثاً أجرح فلان أو أعدله. إن الأمر كله أني ذكرت هذا الرجل وقلت أنه على ما فيه من خير وما له من فضل أظنه أخطأ وهو ليس على الخطأ بكبير ولا أتمنى لو كنت مكانه فأصنع صنيعه، كما أنني ذكرت من فعل الآخر على ما اشتهر عنه من الهنات ما يجب أن يحمد له ويذكر بيننا بكل تقدير واحترام.

فلست أقدس صاحب الفضل العظيم فأزعم أنه لا يخطأ واتحرج أن انتقد فعله، لأن انتقادي إياه ليس انتقاصاً من قدره ولا جرحاً في شخصه ولا إسقاطاً لفضله أو سعياً مني لفض الناس عنه. ولكنه الحق .. كما أنه لا تعميني خطايا الأخر وسوء خبره عن ذكر ما له من حسنات، ولست إذ أذكر محاسن أفعاله أزعم أنه خير من الأول ولست أجمل وأحسن وأقبل أفعاله القبيحة، ولكنه الحق.

وما أؤكد عليه بسيط وليسه فيه لبس ولا تميع وهو أنني لا أعلم مكانة أي من الاثنين عند الله – وهذا مما لا أظنك تخالفني فيه – فلربما هذا الثاني قد نال في الدنيا مما لا نعلم – أو نعلم - ما يرفعه الله به عن ذاك الأول. ولعل ذاك الأول قد نال من الدنيا ما يبعده عن تلك الدرجات العلى التي نتوقعها له، والجميع مرده إلى الله فيحكم بينهم بالعدل وهو أحكم الحاكمين، فلا أدعي لصاحب الفضل العظيم وجوب جنة، ولست أدعي وجوب النار لهذا الذي يجر يدا ويعلق يدا فلعله مخدوش ناج.

وتقييم الرجال لا يكون بصفهم مع الملائكة ولا بدحرهم إلى جموع الشياطين، بل بذكر ما لهم وما عليهم، وليس من أحد يبلغ الكمال، غير أن الناس يتفاوتون في سعيهم إليه، فمنهم من من أخذ نصيبه الربع أو النصف، ومنهم من لم يبلغ منه إلا النذر اليسير.

كل ما قلته أن رجلاً مثل أمير المسلمين يوسف بن تاشفين رحمه الله ورضي الله عنه أراه قد أحيا الله به الدين وجدده، وحفظ به الإسلام وأهله، ولا يقارن حاله الذي شهد بصلاحه أئمة عصره بحال المعتمد محمد بن عباد ملك إشبيلية رحمه الله، ولا يستوي عمل الأول العظيم وصولاته وجولاته بعمل الثاني المختلط.

غير أني ذكرت موقفاً أو اثنين للأول حيرا عقلي ورأيت أنه جانبه فيهما الصواب وأراه – من وجهة نظري - لم يوفق فيهما. فليس في ذلك طعناً في الرجل إلا عند من قدسوا الرجال وقاربوا عبادتهم وإن أنكروا هذا بألسنتهم.

رأيت أن ملك المرابطين قد آل بعد وفاة يحي بن إبراهيم رحمه الله مؤسس الدولة المرابطية العظيمة إلى أبي بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله، فلما توسعت أراضي الدولة وقوي بنيانها على يد أبي بكر بن عمر، وحدثت تلك الخلافات بين أهل الجنوب فأراد أبو بكر أن يجمع الكلمة ولكن أعاقه اتساع رقعة الدولة وكثرة المسئوليات فقرر أن يعهد ببلاد المغرب في الشمال إلى ابن عمه يوسف بن تاشفين رحمه الله حتى ينتهي من أمر الجنوب وتهدأ الأمور فيها، فتسلم ابن تاشفين التركة فتوسع وأسس وبنى وحكم وعدل، وتأخر أبو بكر بن عمر في عودته، ثم لما رجع وكان قد استقر الأمر لابن تاشفين ودانت بلاد المغرب جميعها له، ويكاد بعض هذه البلاد لا تعرف أبي بكر بن عمر لطول غيابه، خشى ابن تاشفين من تمرد وانقلاب هذه البلاد على ابن عمه إذا استرد ملكه فتدخل الدولة في النزاع وتتفرق الكلمة ، فاستقبل أبو بكر على أبواب المدينة في جند كثيف إظهاراً لقوة جيشه ولم ينزل من على فرسه ولم يلن الكلام كما هو المعتاد بين القائدين، وقد أضمر يوسف ابن تاشفين أن يمرر لابن عمه بالإشارة لا بالعبارة أنه من الأفضل له أن يعود أدراجه ولا يطالب باسترداد ملكه، وجهز ابن تاشفين لأبي بكر عتاداً كبيراً وحمولة وأخبره أنه جهزها له ليستعين بها عند رجوعه للجنوب، وكانت فكرة إظهار الاستبداد هذه بمشورة زينب بنت إسحاق النفزاوية زوجة ابن تاشفين الحالية والزوجة السابقة لأبي بكر بن عمر، والتي طلقها عند رحيله إلى الجنوب خشية عليها من حياة الجنوب القاسية التي لن تحتملها. فكان رأي يوسف وزينب أن أبا بكر بن عمر التقي المتورع عن الدماء لن يغامر بنزاع تراق فيه دماء المسلمين حتى وإن كان هو صاحب الحق، وأن هذا الإجراء الاستثنائي إنما هو لمصلحة البلاد والعباد وحفظأ للدين والدنيا، وقد كان ما أرادا ففهم أبو بكر بن عمر المغزى وارتحل عائداً إلى الجنوب بعد أن أوصى ليوسف بن تاشفين.

فهذا موقف لا أفهمه، وحجة لا أقبلها، وأدعو الله أن أكون ممن يرد الأمانات إلى أهلها، ولا أكون ممن يظنون أنهم يحفظون الدين بصنيع ولا باستحسان رأي فيه ما يخالف ما يأمر به الله تبارك وتعالى، فالذي أدين به أن الدعوة والدين محفوظين بحفظ الله تبارك وتعالى طالما التزمنا بما يأمرنا تعالى به.

فهل بهذا أكون قد طعنت في الرجل وتجاوزت الحق الذي له ؟ وهل أكون أجرمت إذا رأيت في هذا الموقف تغيراً واختلافاً عن تربية عبد الله بن ياسين ويحي بن إبراهيم وأبي بكر بن عمر يفسر عندي التهاوي السريع لملك دولة المرابطين بعد موت ابن تاشفين وعلى يد ابنه علي بن يوسف.

ثم أني لا أفهم قسوة أسد المغرب رحمه الله الشديدة مع المعتمد محمد بن عباد رغم ما اتصف به ابن تاشفين من الحلم والعفو .. لست أدافع ولا ألتمس أعذاراً لأخطاء المعتمد ولكني أحمل ما كان منه من قبيح الفعل على ما كان منه من حسنه، ولو كنت مكان ابن تاشفين لحفظت للرجل مواقفه العظيمة. ويكفي – عندي – لابن عباد سعيه لتوحيد ممالك الأندلس المتفرقة – الواحد وعشرين - بضم قرطبة ومرسية وغيرها إلى مملكته للتصدي لهجمات ألفونس السادس ملك ليون وقشتالة. ويكفي عندي أن المعتمد هو من أحضر ابن تاشفين للأندلس للتصدي لجيوش ألفونس وهو القائل جملته الشهيرة عندما حذروه من زوال ملك بني عباد على يد المرابطين إن استدعاهم: والله لا يسمع عني أبداً أنني أعدت الأندلس دار كفر ولا تركتها للمسيحيين، فتقوم علي اللعنة في منابر الإسلام مثلما قامت على غيري، تالله إنني لأوثر أن أرعى الجمال لسلطان مراكش على أن أغدو تابعاً لملك المسيحيين وأن أؤدي له الجزية، إن رعي الجمال خير من رعي الخنازير. ويكفي المعتمد عندي بسالته وشجاعته وإقدامه وبلائه الحسن وتصديه لجيوش ألفونس مع جيش ابن تاشفين في ملحمة الزلاقة فخر معارك ابن تاشفين والمعتمد وجميع المسلمين.

واحدة مما سبق تكفيني لأشفق واترفق مع ملك زال ملكه بسوء صنيعه لما عاد وتحالف مع ألفونس بعد سنوات من الزلاقة خشية من جيوش ابن تاشفين التي عادت لتدخل شبه الجزيرة الأيبرية من جديد بفتاوى العلماء في جميع الأمصار الذين دعوا لإسقاط ملوك الطوائف الفاسدين وإعادة توحيد بلاد الأندلس.

نعم أراني أعجب بشخصية المعتمد الأمير والملك الأنسان الأديب الشاعر الذي يقدر أهل العلم ويشاورهم ويخالف نهج أبيه فيهم، الأمير الذي يتزوج الجارية اعتماد الرميكية ويرفع شأنها حتى أنه يشتق لنفسه لقباً من اسمها، وهو شاعر الأندلس الذي يكتب الشعر في زوجته لا في محبوبته، وهو من التقط أبو بكر بن عمار من براثن الصعلكة ورفع من شأنه ليكون وزيره ورجل الجزيرة بلا منازع، وهو الصديق الذي يحلم ويعفو ويصبر على صديقه ووزيره ابن عمار المرة تلو الأخرى حتى يتمادى ويطمع هذا الصديق فيشق عصا الطاعة فلا يتردد المعتمد أن يقتله بيديه.

فإن يذكروا لي ما كان عليه المعتمد من الترف والمخالفات، فإني أسأل الله عز وجل أن يكون ما أذاقه له يوسف بن تاشفين من عقاب ونفيه إلى أغمات في الصحراء المغربية هو وزوجته وبناته ليعيش فقيراً معدماً مقيداً معظم الوقت بالحديد، يكون ذلك تكفيراً له عن ذنوبه وباباً له ليتألم ويتأمل ويعاني ويتوب قبل أن يموت بعد وفاة زوجته بقليل.

وإني وإن كنت أتمنى أن يكون قادة بلاد الإسلام كلهم كابن تاشفين لا كالمعتمد، فإني أرى نفسي مكان بن عباد الخطاء، الذي يحب ويعشق ويقود الحروب، ويتواضع للناس ويرتفع بهم وتعز نفسه عن سؤالهم، أدافع عن شريعة الله وانا أقع في الزلات، أرضى بما قسم الله تعالى لي وأسأل الله المزيد من فضله.