Saturday, December 31, 2011

عام بنصف تاريخ



برغم إنها ليست عادة عندي ولا اهتم أبدا بالكتابة في آخر سنة وبداية سنة جدبدة إلا إن أشعر أني أريد أن أدون كلمتين في نهاية هذه السنة العجيبة 2011، اللي حملت في أول ساعتها اتفجار، وتبعه سلسلة من الانفجارات الكثيرة المتتابعة، بدأت السنة بانفجار كنيسة القديسين ليسود بعدها جو من الهطل العام الشعبي والعبط الخاص الرسمي، كماين شرطة وسفالة واعتداء في كل مكان، حكومة تبتهل لرب النصارى أن يغفر لها وكأنها تعترف بالذنب، تلفزيون تنصر فجأة وطاف بكعبة العباسية يسأل الصفح والعفو وكأنه يقر بالخطيئة بينما يستقبل في نفس الوقت الفنانين النصارى يبكون ويولولون وهم يبثون سموم الحقد والكراهية بين الدموع والبكاء.

رأيت في الشوارع الوجوه عابسة تتكلم في صمت تنفي التهمة عن نفسها دون أن يتهمها أحد، وصدقاً وليس مجازاً رأيت البحر لأول مرة في حياتي أسود، وما انتبهت لهذا اللون العجيب إلا عندما نبهني إليه سائق التاكسي إلى جواري، حذر وترقب لآت غير مفهوم وهم يرون رؤساء الدولة يروون بذور الطائفية بأنفسهم وهم يذهبون حفاة عراة زاحفين يقدمون التعازي ليس لرئيس الدولة في مصاب أمة، ولكن لرأس طائفة دينية فيها.

وبينما نشاهد هذا المشهد الهزلي تزداد الحياة سواداً، فنتيجة لاعتداءات أمن الدولة في محاولاتها العشوائية للبحث عن كبش فداء لحادث الكنيسة قتل على أيديهم الملوثة الشاب السلفي سيد بلال، قتله زبانية أمن الدولة وألقوا به في أحدى المستشفيات وهددوا أسرته وشيخ السلفيين أما ان يدفنوه في صمت أو يشردوا بهم كل مشرد، فما كان منهم إلا أن دفنوه وهو صاغرون.

لتكتمل لوحة السواد للمسلمين والمسيحين، الألم من حزنهم على قتلاهم في الكنيسة وفاجعتهم في بلادهم التي أصبحت "مفتوحة على البحري" لكل عابث بأمنها وحياة الناس فيها، وزاد الطينة بلة اتهام النظام القاتل السفاح للشعب البريء بالجريمة وتعامل هذا النظام الغبي بالقتل معه تنكيلاً بلا حق ولا رحمة.

خرج الشيخ السلفي منكسراً حزينا يلتمس من تلامذته وطلبة العلم الذين لطالما رفعوه على أعناقهم ألا يقسو عليه وألا يحملوه فوق ما يستطيع تحمله وألا يغلظوا له في القول لظنهم تخاذله عن نصرة المسلم المقتول. سألهم الرحمة والعفو عن شيخ كل ما يرجوه هو ألا تهدم شعائر الله في الأرض وأن تستمر هذه الشعائر إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولاً، إذ إنه حتى هذه الشعائر قد أصبحت مهددة ومعرضة للاعتقال من قبل النظام الغاشم.

كانت الدنيا فعلاً سوداء والظلام يلف مصر وليل لا ينقضي زاد من برودة شتاء لا روح ولا حياة فيه. لكن صدق الله الذي يقول إن مع العسر يسرا، فمن بين هذا الظلام خرجت شرارة النور من بعيد، وكانت الإجابة تونس، انتبه الناس من حزنهم وشغلهم على الخبر الصاعقة : تحت الضغط الشعبي الرئيس التونسي يفر من تونس.

لترتفع الهامات التي كادت أن تدفن من طول ما طأطأت ووتتعلق الأبصار بأمل قد يأتي، يسعى إليه شباب ثائر يرى أن ما حدث في تونس يمكن - أو لابد - أن يحدث مثله في مصر، يتفقوا على موعد معلن لجميع الناس الذين شاهدوهم وهم منقسمون ما بين غير مصدق تلجمه المفاجأة أو ساخر أو معارض أو متخوف، الجميع يتمنى لكن البعض بدأ والباقي دعا وترقب.

خرج من خرج في اليوم الأول ليتلقوا الضرب والتنكيل ويتجرعوا ألوان البطش على مرأى ومسمع من الجميع، ليخسروا أول جولة وتسحق أجسادهم وهو يستغيثون بإخوانهم .. ولم تكن صرخاتهم دون جدوى فبها انتفض الباقي المتفرج وأبوا أن يفقدوا أملهم وينتصر الظلم مرة أخرى فقرروا النزول، وبعد ثلاثة أيام انفجرت مصر كلها غضباً.

في 18 يوم بيان هام للأمة تلو بيان، وحظر تجوال، وهروب المساجين وشائعات الانفلات الأمني والهجمات على البيوت وصرخات النساء الخرفات على التلفزيون وشائعات قطع الكهرباء والمياه ونقص الطعام، موقعة الجمل والتهديد بحرب أهلية وفوضى .. كل هذا قابله المصريون بابتسامة وقفشة ونكتة متمسكين بالأمل وهم يرتجفون من برد الشتاء في لجانهم الشعبية.

وأخيرا تنحي وركع الجلاد للضحية وخرج ملايين للشارع في سعادة يحتفلون للصباح ثم عادوا لبيوتهم وناموا لأول مرة سعداء بأنفسهم وبنصرهم وبحديث العالم عنهم ليبدأ من بعد ذلك مرحلة العصف الفكري والخلافات والأسئلة .. ماذا بعد ؟ كيف ستدار المرحلة الانتقالية ؟

البعض شعر أن البلد قد عادت إليه فخرج يطلي الشوارع بألوان البهجة ويرسم على الجدران لوحات رائعة، والبعض سعى لحصد أقصى مكاسب وأن يخرج بأكبر استفادة لنفسه وأقل خسائر، اختلف المصريون واتهم كل فصيل الآخر وظهرت تهم جديدة على قاموسنا : "أنت ضد الثورة .. أنت فلول .. أنت حزب كنبة"، حل الحزب الوطني والمجالس المحلية وامن الدولة، مطالبات بإلغاء المادة الثانية من الدستور، وما بين الدينية والمدنية دار الجدال، وجدال آخر على البدائة كيف تكون ؟ الدستور أولاً أم الانتخابات ؟ كنائس تحرق وفتن طائفية تندلع وأصابع أمن الدولة لازالت تعمل في الخفاء، ومخاوف من صعود التيار الإسلامي، مرشحي الرئاسة ودعوات مستمرة لمليونية تلو مليونية، مرة لإظهار القوة ومرة صوفية، مرة تنجح ومرت تفشل، مطالب فئوبة واعتصامات في كل مكان، وتحت ضغط التظاهر والمليونيات بدأت أخيرا المحاكمات، وما بين مصدق ومكذب ظهر لأول مرة الرئيس الزعيم الفريد في قفص الاتهام لتقر الأعين إلى حين وتهدأ النفوس، ثم بينما تخرج المسيرات تطالب بسرعة القصاص إذ يقتل مصريون آخرون على الحدود وتقتحم سفارة الصهاينة ويخرج من مصر ابن صهيون، تتشكل أحزاب إسلامية ويأتي رمضان والعيد لأول مرة والمصري يردد الله أكبر كبيرا من قلبه استشعارا بمعناها.

أحداث ماسبيرو ووثيقة سلمي تفجر مصر غضباً، ويعلو الهتاف "يسقط يسقط حكم العسكر" وتجرى الانتخابات في مصر ويحصد الأسلاميون فيها نصيب الأسد، يظهر الاناركيون في مصر - الاشتراكيون الثوريون -، وتندلع أحداث محمد محمود وينشأ مجلس استشاري وأحداث مجلس الوزراء .. وووو

ساعات وتنتهي هذه السنة وكأنها تحمل من الأحداث أكثر لكنها تكتفي لضيق الوقت .. هل يعقل أن نصف ذكريات وتاريخ جيل يحدث في عام واحد.

مع السلامة 2011 وأهلا 2012

Monday, December 12, 2011

في الطابور


تسعدني وتبهجني فكرة أنك تقف في الطابور مثلي ومثل عامة الناس، اشعر معها بالأمن والسكينة وأشعر معها بالمساواة بين الجميع لا لصفة سوى أننا جميعا اشتركنا في وصف إنسان، استشعر بوقوفك في الطابور أن هناك أمل في دنيا أفضل لا يتخطى فيها كائن من كان رقبة أخاه لمجرد أنه يتميز عنه بأنه صاحب منصب أو نفوذ أو ابن أو قريب لفلان أو لأنه يمتلك ما لايمتلكه الأخرون.

أحمد شفيق في الطابور محمد سليم العوا في الطابورعمرو موسى في الطابور

قد يفطن الأذكياء لما لا يخفى من كون هؤلاء ما وقفوا في الطابور إلا كجزء من دعايتهم الانتخابية، لأنهم يزعمون أنهم سيكونوا أنصاراً للحق والضعفاء، وما كان لمنتصر للحق أن يبخس الناس حقوقهم ويتخطاهم، وما كان لنصير الضعفاء أن يدهسهم بقدمه .. نعم لكنهم لم يكونوا وحدهم في الطابور فقد وقف فيه غيرهم.

شيخ الأزهر في الطابور المستشار البشري في الطابورالشيخ أحمد حطيبة في الطابور

قد يقول قائل إن هؤلاء لهم مكانتهم العلمية ولابد أن يكونوا قدوة للناس ومثالاُ في الخلق يحتذي به وإلا ضاعت هيبتهم ومكانتهم .. لكنهم لم يكونوا وحدهم في الطابور فقد وقف فيه غيرهم

هاني رمزي .. يسرا .. خالد صالح .. ليلى علوي

قد يقال: إنهم الفنانون محل النقد والاتهام والتشهير، فهم على سمعتهم وأنفسهم أخوف. ولكنهم لم يكونوا وحدهم في الطابور بل كان في الطابور غيرهم ...

فقد وقف في الطابور " واحدة رائعة رفضت رفضا باتا إنها تسيب الطابور وتذهب مع زوجها لأول الطابور بعد ما جاب إذن لها لأنها مريضة وتقوله لأ أنا مش تعبانة زيي زي الناس ".

ووقفت هذه المرأة التسعينية في الطابور


وغيرهم ...

قد يكون الأمر هيناً عند الكثيرين لكني أراه عظيماً، فأمر عظيم فعلا أن نترك ذلك الموروث الثقافي الذي نحمله في جيناتنا والذي يأبى معه كل واحد فينا أن يقف في الطابور حتى يحين دوره، ويرى أن وقوفه خلف آخر جاء قبله انتقاصاً لا يستساغ، هذا الموروث هو نفسه الذي يجعل راكب السيارة يملأ الدنيا ضجيجاً إذا ما تجرأت السيارة التي أمامه وتعطلت، أو توقفت لأي سبب كان. ويجعل كل واحد منا يقف في أي طابور لا يهنأ له بال ولا يرتاح إلا وهو يسعى بكل ما أوتي من حيلة لأن يتخطى من أمامه، إما بالرشوة أو الواسطة والمعارف، وإما بالاستعطاف واستجداء الأخرين وإما بمحاولات اقناع الواقفين أنه صاحب حالة خاصة تختلف عنهم وتجعله جديرا لئن يكون في أول الصفوف.

Friday, November 25, 2011

حول انتخابات نقابة المهندسين اليوم



جرت اليوم انتخابات نقابة المهندسين لأول مرة منذ حوالي 15 عام فرضت على النقابة خلالها الحراسة القضائية.

توجهنا لنادي المهندسين - أحد مقرات الانتخاب - الساعة 11 تقريبا، وبصراحة لم نكن نتوقع أن يكون فيه إقبال وزحام بهذا الشكل الكبير، واصطف أنصار القوائم أمام مدخل النادي - حسب ما عرفنا - من الصبح بدري وقاموا بتوزيع المنشورات وقوائمهم والحديث مع بعض المهندسين عن مرشحيهم وبرامجهم، بالإضافة لتواجد حزب الوسط لكن كان بيوزع ورق خاص ببرنامج الحزب في انتخابات مجلس الشعب.

أمام النادي كانت السيارات تركن صف تاني على الجانبين وبمسافة طويلة قبل وبعد سور النادي مع العلم إن الركن على الجانبين ممنوع تماما في الأيام العادية، والأغرب إن السيارات قفلت تمام U-Trun في الجزيرة الوسطى بين الجانبين، كل دا أمام ضباط وعساكر المرور اللي كانوا موجودين مخصوص أمام النادي لتنظيم المرور. الزحام داخل النادي كان كبير جدا لدرجة إن البعض قرر الانصراف وعدم الانتخاب من شدة الزحام.

في البداية قبل الصلاة كان سبب الزحام غير واضح، كان فيه طوابير طويلة جدا بطول النادي وبتلف بشكل حرف U، ولما سألت كذا مهندس الطابور دا إيه؟، كانت ردودهم عليا إنهم مش عارفين وواقفين وخلاص. في الآخر واحد قال لنا إن الطابور في آخره كمبيوتر بتدخل بياناتك وتاخد إفادة إنك مسدد الاشتراك في النقابة لغاية 2009، وبالافادة دي تروح تنتخب، لكن الموقف اتأزم في عيوننا لما ناس قالت إن السيستم وقع.

فكرنا بعدها نروح لجنة انتخابية تانية يكون الزحام فيها أقل. لكن قلنا نصلى الجمعة الأول، ورغم إنه أقيمت صلاة الجمعة في ساحة النادي لكن احنا فضلنا نصلي في مسجد خارج النادي، وبالرغم من كده كان برضه زحمة جدا لوجود عدد كبير من المهندسين، كانت الخطبة عن أثر الذنوب والمعاصي على الفرد والمجتمع، بعد الخطبة طلع واحد من الحاضرين وهاجم الخطيب المسن بشكل شديد وبصوت عال في المسجد، واعتبر إن الخطبة دي ما ينفعش تتقال لناس مثقفين وإنها تقال في المناطق الشعبية فقط، وإن الخطيب كان مضمون كلامه الخفي هو دعاية انتخابية لحزب النور !!

بعد الصلاة توجهنا مرة أخرى للنادي وسألنا مهندس معرفة مرشح للنقابة الفرعية من قائمة تجمع مهندسي مصر عن حالة اللجان الأخرى من حيث الزحام فقال لنا إن كل اللجان زحمة زي هنا، وطلب مننا إننا نصبر وما نزهقش.

فضلنا واقفين في أحد الطوابير، وسمعنا إن السيستم اشتغل تاني، وكان أنصار المرشحين بره النادي مشغلين مكبرات صوت بالهتاف لمرشحيهم أو تشغيل أغاني وكان فيه واحد بيردد قسم أنه يحافظ على معرفش إيه كده ويرعي مش عارف ايه ... وبين قفشات المهندسين وهزارهم رغم اختلاف المراحل العمرية كان الحديث الغالب الدائر بين المهندسين عن حال النقابة زمان ومقارنتها بالوضع الحالي السيء قم الحديث عن ميدان التحرير وتأييد أو معارضة التظاهر الآن.

بعد الصلاة زادت عدد اللجان في النادي وكان بيعدي كل شوية أحد أعضاء تكتلات المهندسين لتوضيح طريقة الانتخاب الصعبة لأنها تضم خمس ورقات كبيرة واختيار 42 عضو، وكانوا بيوضوحوا أسباب بطلان الصوت.

اختيارات المهندسين غير المنتمين اللي اتكلمت معاهم كلها كانت ما بين تجمع مهندسي مصر - الإخوان -، ومهندسين بلا قيود - السلفيين -، لدرجة إن داخل اللجنة كان فيه مهندس قال لي إنه نسى نضارته ومش عارف يقرا الاسماء - رغم إن القوائم الكبيرة أصلا مكتوبة بخط كبير جدا - وطلب مني اني اعلم له في أوراقه الإنتخابية بشرط اني اختار إخوان أو سلفيين.

النادي اعلن في الميكروفون إن أبواب النادي حيتم اغلاقها الساعة الخامسة، لكن عملية التصويت ستستمر حتى تصويت آخر مهندس داخل النادي دون التقيد بالوقت.

برغم اصرار القاضي المشرف على اللجنة على غمس الصوباع في الحبر الفوسفوري وتحليقه عليها ومنع تواجد أي حد في اللجنة بدون داع، إلا إنه كان فيه ناس بتخرج من غير ما تغمس صباعها.

غادرت النادي حوالي الساعة 4 مساءا.

Sunday, November 20, 2011

كيف خدع الشيطان العابد ؟



جاء في إحياء علوم الدين للغزالي رحمه الله:

وفي الإسرائيليات أن عابدا كان يعبد الله دهرا طويلاً فجاءه قوم فقالوا: إن ههنا قوما يعبدون شجرة من دون الله تعالى. فغضب لذلك وأخذ فأسه على عاتقه وقصد الشجرة ليقطعها، فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال: أين تريد رحمك الله ؟
قال: أريد أن أقطع هذه الشجرة.
قال: وما أنت وذاك تركت عبادتك واشتغالك بنفسك وتفرغت لغير ذلك.
فقال: إن هذا من عبادتى.
قال: فإنى لا أتركك أن تقطعها.

فقاتله فأخذه العابد فطرحه إلى الأرض وقعد على صدره فقال له إبليس: أطلقنى حتى أكلمك.
فقام عنه فقال إبليس: يا هذا إن الله تعالى قد أسقط عنك هذا ولم يفرضه عليك وما تعبدها أنت وما عليك من غيرك ولله تعالى أنبياء في أقاليم الأرض ولو شاء لبعثهم إلى أهلها وأمرهم بقطعها.
فقال: العابد لا بد لى من قطعها.

فنابذه للقتال فغلبه العابد وصرعه وقعد على صدره فعجز إبليس فقال له: هل لك في أمر فصل بينى وبينك وهو خير لك وأنفع؟
قال: وما هو ؟
قال: أطلقنى حتى أقول لك.
فأطلقه فقال إبليس: أنت رجل فقير لا شىء لك إنما أنت كل على الناس يعولونك ولعلك تحب أن تتفضل على إخوانك وتواسى جيرانك وتشبع وتستغنى عن الناس ؟
قال: نعم.
قال: فارجع عن هذا الأمر ولك على أن أجعل عند رأسك في كل ليلة دينارين إذا أصبحت أخذتهما فأنفقت على نفسك وعيالك وتصدقت على إخوانك فيكون ذلك أنفع لك وللمسلمين من قطع هذه الشجرة التى يغرس مكانها ولا يضرهم قطعها شيئا ولا ينفع إخوانك المؤمنين قطعك إياها.

فتفكر العابد فيما قال وقال: صدق الشيخ لست بنبى فيلزمنى قطع هذه الشجرة ولا أمرنى الله أن أقطعها فأكون عاصيا بتركها وما ذكره أكثر منفعة فعاهده على الوفاء بذلك وحلف له.

فرجع العابد إلى متعبده فبات فلما أصبح رأى دينارين عند رأسه فأخذهما وكذلك الغد ثم اصبح اليوم الثالث وما بعده فلم ير شيئا فغضب وأخذ فأسه على عاتقه فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال له: إلى أين ؟
قال: أقطع تلك الشجرة
فقال: كذبت والله ما أنت بقادر على ذلك ولا سبيل لك إليها.
فتناوله العابد ليفعل به كما فعل أول مرة. فقال: هيهات. فأخذه إبليس وصرعه فإذا هو كالعصفور بين رجليه وقعد إبليس على صدره وقال: لتنتهين عن هذا الأمر أو لأذبحنك.

فنظر العابد فإذا لا طاقة له به قال: يا هذا غلبتنى فخل عنى، وأخبرنى كيف غلبتك أولاً وغلبتنى الآن ؟

فقال: لأنك غضبت أول مرة لله وكانت نيتك الآخرة فسخرنى الله لك وهذه المرة غضبت لنفسك وللدنيا فصرعتك.


- إهداء للخائفين من ضياع الانتخابات -

Thursday, October 20, 2011

اتكلم .. اسمع .. اسكت


هما كلمتين ورد غطاهم، غير ذلك اسميه الحوار الشجري - من الشجر أو الشجار تنفع من الاتنين - ، حيث يعرض فيها أحد الطرفين وجهة نظر في موضوع ما، فيعيب عليه الطرف الآخر وجهة نظره من ناحيتين ناحية أولى وناحية ثانية، فيرد عليه الطرف الأول أن بالنسبة للناحية الأولى فليست كما يظن للأسباب ( أ ) و ( ب )، أما ما قصدته من الناحية الثانية فهو ( ج ) و ( د )، فعندها يرد الطرف الآخر بأن السبب ( أ ) واهي لأنه مبني على واحد واتنين وتلاتة ، والسبب ( ب ) .... ، فيقاطعه الطرف الأول: انا أرفض اتنين هذه لأني بينتها من قبل لك في ردي على الناحية الثانية لما تكلمت على ( ج ) ، فيرد الطرف الآخر .....

في مسند الإمام احمد، عن عبد الرحمن بن أبزى قال: كنا عند عمر فأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنا نمكث الشهر والشهرين لا نجد الماء.
فقال عمر: أما أنا فلم أكن لأصلي حتى أجد الماء.
فقال عمار: يا أمير المؤمنين تذكر حيث كنا بمكان كذا ونحن نرعى الإبل فتعلم أنا أجنبنا.
قال: نعم.
قال: فإني تمرغت في التراب فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فضحك وقال: كان الصعيد الطيب كافيك وضرب بكفيه الأرض ثم نفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وبعض ذراعيه.
قال: اتق الله يا عمار
قال: يا أمير المؤمنين إن شئت لم أذكره ما عشت أو ما حييت.
قال: كلا والله ولكن نوليك من ذلك ما توليت.


ليس أمراً حتمياً أن يستمر الحوار إلى أن يقتنع أحد أطراف الحوار بوجهة نظر الطرف الآخر، وأنا يتفقا في النهاية، فلا اتفاقهما في أمر ما يجعلهما أحبة، ولا اختلافهما بالضرورة يجعلهما أعداء. ويكفيك في الحوار أن تعرض وجهة نظرك وتتكلم، ويعرض الطرف الآخر وجهة نظره وتستمع، ثم ينتهي الحوار عند هذا الحد، وفي أسوأ الأحوال إذا لزم الأمر يمكن إضافة جولة أخرى على أن لا يزيد الأمر أبداً عن هذا الحد.

في البداية والنهاية، قال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن قدامة الجوهري، حدثني عبد العزيز بن يحيى، عن شيخ له قال: لما قدم عمر بن الخطاب الشام تلقاه معاوية في موكب عظيم، فلما دنا من عمر قال له: أنت صاحب الموكب ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: هذا حالك مع ما بلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك ؟ قال: هو ما بلغك من ذلك.
قال: ولم تفعل هذا ؟ لقد هممت أن آمرك بالمشي حافيا إلى بلاد الحجاز.
قال: يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للاسلام وأهله ويرهبهم به، فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت.
فقال له عمر: يا معاوية ما سألتك عن شئ إلا تركتني في مثل رواجب الضرس، لئن كان ما قلت حقا إنه لرأي أريت، ولئن كان باطلا إنه لخديعة أديت.
قال: فمرني يا أمير المؤمنين بما شئت.
قال: لا آمرك ولا أنهاك.
فقال رجل: يا أمير المؤمنين ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه ؟ !
فقال عمر: لحسن موارده ومصادره جشمناه ما جشمناه.


كثرة الجدال وطوله يضيع المعنى ويعيق وصول الحقائق للآخرين، لتعدد المواضيع والنقاط المتفرعة وارتفاع احتمال الوقوع في الخطأ والزلل، وما يسببه من ضيق في الصدر وما يتبع ذلك من ربط اللسان، لذلك خشى موسى إذا جادل فرعون وملأه أن يضيق صدره فلا ينطلق لسانه، وأسوأ المحاورين من ينطلق لسانه وصدره ضيق.

في مجمع الزوائد للهيثمي، عن خوات بن جبير قال: نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، قال فخرجت من خبائي فإذا نسوة يتحدثن فأعجبني فرجعت فاستخرجت عيبتي فاستخرجت منها حلة فلبستها وجئت فجلست معهن فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبا عبد الله.
فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هبته واختلطت.
قلت: يا رسول الله جمل لي شرد وأنا أبتغي له قيدا.
فمضى واتبعته فألقى إلي رداءه ودخل الأراك كأني أنظر إلى بياض متنه في خضرة الأراك فقضى حاجته وتوضأ وأقبل والماء يسيل من لحيته على صدره فقال: أبا عبد الله ما فعل شراد جملك ؟
ثم ارتحلنا فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال: السلام عليك أبا عبد الله ما فعل شراد ذلك الجمل ؟
فلما رأيت ذلك تعجلت إلى المدينة واجتنبت المسجد ومجالسة النبي صلى الله عليه وسلم فلما طال ذلك تحينت ساعة خلوة المسجد فخرجت إلى المسجد وقمت أصلي وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حجره فجاء فصلى ركعتين خفيفتين وطولت رجاء أن يذهب ويدعني فقال: طول أبا عبد الله ما شئت أن تطول فلست قائما حتى تنصرف فقلت في نفسي والله لأعتذرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبرئن صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما انصرفت قال: السلام عليك أبا عبد الله ما فعل شراد جملك.
فقلت: والذي بعثك بالحق ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت.
فقال: رحمك الله ثلاثا ثم لم يعد لشيء مما كان.


ما تقوله أنت يرفع عن الآخر جهالة الأمر ويرفع عنك أثم ترك النصح والتبيان، وما يقوله الآخر يرفع إلى الله، وسيرى الله عمله ورسوله ثم يرد إلى عالم الغيب والشهادة فينبئه بما كان يعمل، وليس لك من الأمر شيء، وما عليك إلا البلاغ الواضح، فوكل السرائر إلى الله، ولا يضرك أن تكون أول الساكتين.

Tuesday, October 18, 2011

ارفع راسك فوق .. إنت عصبي


يبدأ يوم عملي عادة بمجموعة من الأحمال الشاقة، تبدأ بمجاهدة رغبة الاستمرار في النوم والأنتخة وأخذ اليوم أجازة، ثم المحاولات المضنية لنقلي من حالة الاستيقاظ إلى حالة الصحيان والتي غالبا تبوء بالفشل ولايظهر لها أي أثر إلا بعد مرور ساعات، ثم إجراء بعض المعادلات الحسابية لاختيار وسيلة المواصلات الأنسب التي تتناسب مع حالة اللا نوم واللا صحيان اللي أنا فيها، وأخيراً رحلة الوصول إلى العمل وبداية اليوم.

في ذلك اليوم انتقلت إلى مرحلة الصحيان أسرع من المعتاد لموقف حرق دمي وقلب فكري، فبعد أن وصلت إلى عملي بأكثر من نصف ساعة تقريباً، اتصل بي زميلي ليخبرني بأن اليوم أجازة لي، وأنه يأسف حيث كان يعلم الخبر من يومين ولكنه تأخر في إبلاغي !!.

قلت له: لا بأس، .. لكن خلاص انا جيت ومش معقول ارجع تاني وياريت تبلغ الإدارة إني حضرت اليوم للعمل وأنك نسيت تبلغني عشان ما يتحسبش عليا، وياريت تراعي إن الموقف دا ما يتكررش تاني.

سكت قليلاً، ثم قال: على فكرة إنت اسلوبك حاد جداً وبتتعصب من غير داع وبتعمل من الحبة قبة، والصديق من صدقك وأنا بصدقك القول إنت كده أكتر واحد حيتعب في حياته من الطريقة دي وحاول إنك تكون مرن شوية عن كده و ......

أوك أنا عصبي وشرير وماكينة حرق دم .. مفيش مشكلة واتفهم جداً، لكن مش دا الموقف المناسب لذكر شروري وآثامي وأفعالي البغيضة، الموقف الآن إن فيه واحد أهمل في حق زميله، وأنا اتخذت موقف حاد كرد فعل على خطأه في حقي، والتصرف - الذي أراه طبيعياً هنا - إنه إكمالاً لاعترافه بخطأه وتفعيلاً لاعتذاره عليه أن يقدر سبب غضبي وحدتي ويسكت، لا أن يتهمني بأني أغضب ! ، لكنه أبداً لم يفعل.

لماذا نتوقع دائماً من الآخرين الصفح وغفران أخطائنا في حقهم، بينما نتجاهل أنهم كانوا أيضاً يتوقعون منا ألا نخطأ بهذا الشكل تجاههم، ولماذا نتفاجئ بحدتهم وعصبيتهم أمام اعتذارنا ولا نقدر مفاجآتهم بإهمالنا لحقوقهم، وكيف نستخرج مشاعر السماحة من الآخرين ونحن لا نقدّر بقية مشاعرهم ونصر إصراراً على إن موضوع الخطأ مش مستاهل وإنهم عصبيين زيادة عن اللزوم وعاملين من الحبة قبة ومكبرين الموضوع.

الغريب هنا تناقض وكوميدية أسلوبنا وطريقتنا ونحن ندعي الحلم والصبر على عصبية من لم يصبر على آذانا له، بينما نتبع طريقة " آخر واحد يتكلم يبقى هو الكسبان "، فاتكلم وقول أي حاجة، رد على اللي قدامك وأوعى تسكت له وإلا تبقى خسرت، ولو سكت وخسرت أي حوار تبقى خسرت كيانك وشخصيتك وأهميتك وعزتك وكرامتك ودنياك وآخرتك، قول أي حاجة، جيب الشرق مع الغرب، ما تقولش " أنا مقتنع بكلامك " و " معاك حق " أبداً إلا لو كنت حتقول بعدها " لكن " أو " بس ما تنساش إن " أو " على فكرة إنت مش واخد بالك من " وبعدها ابقى حط أي كلام يلخبط وعايم ومالوش علاقة بالموضوع، مش مهم أرمي الكرة في ملعبه وما تكونش أنت اللي يسكت.

ولو مش لاقي كلام تستمر فيه في النقاش والحجة غلبتك، اعمل زي صاحبنا فوق وإياك أن تسكت .. طلع في اللي قدامك أي عيب، حتى لو العيب دا مالوش علاقة بالحوار، وحتى لو أنت اللي غلطان، هو يعني اللي قدامك دا أحسن منك، ليكن لك في فرعون أسوة لما نبي الله موسى قال له قولاً ليناً، رد فرعون وقال { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}[الزخرف:52].

بلاش فرعون، ليكن لك في فئام من سواقين الميكروباص أسوة، لما يخبط عربيتك وهي واقفة أصلاً، وينزل من العربية يقول لك : " مش تفتح يا بني أدم، أنت إيه ما بتشوفوش، فيه حد يركن عربيته كده !!! "، أيوا صوتك أمانة، لو مش حتاخد الناس بالصوت يبقى أنت خاين للأمانة، ومش بتحافظ على النعمة اللي ربنا عطهالك.

المهم أن الحوار يستمر ويستمر وأنك لا تكون أول الساكتين فهذه فضيلة انقرضت لا تناسب عصرنا، وأعلم أن الحوار المبني على نظرية " كلمة ورد غطاها " لا يتناسب مع عاداتنا وتقاليدنا العريقة، والنفوس العصبية التي تضيق بالحوارات السرمدية هي التي تحمل كل العيب والخطأ، ولا تقدر قيمة أفكارنا وثراء أطروحاتنا.

Friday, October 14, 2011

الخطة دي سي



بسم الله العزيز الحكيم

الوصف
بنود خطة الاختفاء والابتعاد عن الجميع، وتغيير الحياة بكل ما ومن فيها والبحث عن بداية جديدة لكل شيء.

السبب
عند التهنيج من كل شيء وكل حد، وعندما يصل التهنيج إلى ذروته لابد من عمل ريستارت.

الإجراءات
1 - تسييل الأصول، بيع كل ما يمكن بيعه: كمبيوتر، لاب توب، خاتم، عربية، ساعة، .......
2 - تصفير وإغلاق حساب أي بنك إضافي وتحويل كل السيولة لحساب بنكي واحد فقط.
3 - إلغاء اشتراكات الموبايل واليو اس بي مودم والايميلات والفيس بوك ولينكيد إن.
4 - التفاهم مع الوالدين وتفسير غيابي المنتظر بوجود عمل لمدة شهرين خارج المدينة وتوضيح أن التليفون لايعمل وقيامي بالاتصال بهم كلما اتيح لي ذلك.
5 - تجهيز شنطة هاند باج صغيرة فيها أقل ما يمكن من الاحتياجات الشخصية.
6 - تجهيز الأوراق الرسمية التي قد يحتاج إليها، شهادات الميلاد القديمة والحديثة، شهادة الجيش، شهادة الثانوية العامة والبكالوريوس والدبلومات، الشهادات الدولية، البطاقة، الفيزا، كارنيه النقابة، البطاقة العلاجية، البسبور ....... و 500 جنيه سيولة.
7 - الاستيقاظ متأخراً والتوجه لمحطة القطار، حجز تذكرة في أول قطار يخرج من المحطة أيا كانت وجهته، وركوب القطار حتى نهاية الخط وحجز تذكرة في أول قطار يخرج من المحطة - طبعاً ما يكونش راجع :) .
8 - تكرار حجز التذاكر حتى الوصول إلى نقطة الخروج من اللوب.
9 - يمكن الاستغناء عن النقطتين السابقتين بتحديد مدينة في أي محافظة من البداية ونخلص بدل الدوشة دي كلها.
10 - الخروج إلى المدينة المختارة والبحث عن فندق للإقامة.
11 - مع أول صباح في المدينة ابدأ في البحث عن أي عمل بأي راتب.
12 - بمجرد الحصول على عمل يتم البحث عن مكان للاقامة، شقة صغيرة جدا إيجار جديد ويشترط هدوء المنطقة وقربها من العمل.
13 - شراء ملابس جديدة.
14 - الاتصال بالوالدين للاطمئنان عليهم وطمئنتهم واخبارهم ان اقامتي بعيدا ستطول.
15 - البداية الجديدة

ملحوظة
النقاط تعبر عن احتمال إضافة بنود أخرى فيما بعد.

ملحق #1
يمكن تغيير محطة الوصول إلى قرية بعيدة عن العمران أو دولة خارج مصر حسب توقيت تنفيذ الخطة مع إضافة بند خاص بتصريح السفر.


Wednesday, September 28, 2011

الشريعة والمياه


التشابه بين أحكام الإسلام والمياه لا يقتصر فقط على اشتراكهم في كلمة "شريعة" التي تعني في اللغة مورد الماء الظاهر السهل المتسع لكل من يرده، وكذلك تعني في اللغة المستقيم الظاهر من المذاهب، ولكن يمتد التشابه وتتكرر نقاط التلاقي في أشياء أخرى منها:

1-
أن الماء وأحكام الإسلام كلاهما سبب الحياة فالله عز وجل يقول عن الماء { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }[الأنبياء:30] ويقول تعالى { وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ }[سورة النحل: 65]، ولو لم يوجد الماء لانتفت الحياة واضطربت أحوال الناس، وكذلك الشريعة فيها حياة القلوب والأرواح، فشريعة الإسلام للقلب والروح تساوي شريعة الماء للبدن لذلك قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ }[سورة الأنفال: 24].

2-
أن الماء وأحكام الإسلام كلاهما أسباب الطهارة، يقول الله عز وجل { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا }[الفرقان:48]، ويقول عز وجل في شرائع الإسلام { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ }[المائدة: 6]، ويقول عز وجل { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ }[عبس:13-14].

3-
أن الماء وأحكام الإسلام كلاهما يتصفان بالبركة لأنهما أسباب النماء والزيادة وأبواب كثيرة للخير، يقول عز وجل عن الماء { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا }[ق:9]، ويقول تعالى عن الوحي { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ }[الأنعام:92].

4-
أعظم الملائكة جميعهم هما جبريل وميكال، فأما الأول فموكل بالوحي ونزول الشرائع وأما الثاني موكل بالقطر ونزول الغيث والرحمة، قال ابن ابي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية عن الملائكة: " ورؤساؤهم الأملاك الثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل. الموكلون بالحياة؛ فجبريل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم ".

5-
يضرب لنا الله تبارك وتعالى مثل لأحكام الإسلام والوحي كالماء الذي أنزله من السماء فكان يعلو عليه فيما يبدو للناس زبد - وهي أهواء الناس التي يدخلونها على الدين - يظنه الناس من الماء لكن ما يلبث أن يزول ويمكث في الأرض الماء الذي ينفع الناس، يقول تعالى { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ }[الرعد:17].

6-
يضرب لنا رسول الله عز وجل مثل للوحي بالماء المنزل من السماء، ففي صحيح البخاري عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيب أصاب أرضا، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب والكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك الماء ولا تنبت الكلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ".

Saturday, September 24, 2011

أهون السقي التشريع


شَرَعَ: أي بدأ، وشَرَعَ طريقاً أي فتحه وأنفذه. في القاموس المحيط شَرَعَ في الأمر أي خاض فيه، وشَرَعَ الشيء أي رفعه جداً. يقول تعالى { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا }[الأعراف:163] أي ظاهرة مرفوعة فوق الماء. وشَرْع أي زاد ومؤونة في السفر، تقول " شَرْعُكَ ما بَلَّغَكَ المَحَلَّ " أي حسبك من الزاد ما بلغك مقصدك.
وفي لسان العرب شَرَعَ فلان إِذا أظهر الحق وقمع الباطل. وفي المعجم الوسيط: الشرع هو السواء يقال نحن في هذا شرع أي سواء.

الشراع: المكان العالي، وفي لسان العرب المواضعُ التي يُنْحَدر إِلى الماء منها، ومنه شراع السفينة وهو ما يظهر منها ويساعد على دفعها وحركتها.

الشارع: هو الطريق الأعظم الواسع المبلغ للغاية، وفي القاموس المحيط: دار شارعة ومنزل شارع أي دار تقع على طريق نافذ. والشارع أيضاً أي العالم الرباني العامل المعلم الذي يرده الناس.

الشريعة: هي الماء الكثير الظاهر الغير منقطع، وفي لسان العرب: الشَّريعة مورد الماء الذي تشرع فيه الدواب – أي تشرب منه -، وهي مورد الشاربة التي يشرعها الناس – أي يردها - فيشربون منها ويستقون وربما شرعوها دوابهم حتى تشرعها وتشرب منها والعرب لا تسميها شَريعةً حتى يكون الماء عِدًّا لا انقطاع له ويكون ظاهراً مَعِيناً. يقول تعالى { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }[الملك:30]، أي ماء ظاهر يدرك بالعين تستطيعون ان تنالونه بسهولة دون كبير مشقة. ويقول العرب أهون السقي التشريع أي أسهل السقاية للناس وللإبل هي عند وجود شريعة الماء الظاهرة التي لا انقطاع لها ولا حاجة لنزع ولا حاجة لاستعمال أية أدوات للوصول إلى الماء.

والشريعة: هي الظاهر المستقيم من المذاهب، كما جاء في القاموس المحيط.

التشريع: القاموس المحيط: إيرادُ الإبل شريعة لا يحتاج مَعَها إلى نزع بالعلق ولا سقي في الحوض.

من هذا كله يمكن تحديد الخصائص التي لا بد أن يتسم بها المنهج ليصح إطلاق وصف " شريعة " عليه انطلاقاً من المعنى اللغوي للفظ " شريعة "، فالشريعة هي المذهب الظاهر المستقيم الواسع الممتد الشامل لكل الذي يحتاج إليه الإنسان في رحلته في الحياة لتساعده على الحركة دون مشقة، ويتساوى فيه كل الناس، ويتميز بقربه ووضوحه وسهولة الوصول إليه.

لاستفادة أكبر يمكن الاطلاع على الرابط التالي خصائص الشريعة

Saturday, September 10, 2011

الحرب


من أسوأ ما اكتسبته كمصري من تريبة نظام مبارك المذلة هو الخوف من الحرب وتمجيد أي سلام، وكأن الحرب وحدها هي كل العار الذي يجب أن نفر منه حتى ولو كانت من أجل قضية نؤمن بها، تربية تجعل من الرجال نعاج "تمشي جنب الحيط" و"تبعد عن الشر وتغنيله كمان" مهما كان عدالة القضية إبثاراً للسلامة، وأصبحت العيون تدور كالذي يغشى عليه من الموت كلما جاء ذكر القتال أو علا احتمال الحرب.

اختفت من مناهجنا { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } وعلت مكانها { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } رغم أنها نزلت في قوم أرادوا ترك الإنفاق في مصرف الجهاد في سبيل الله.

وركنا إلى أننا لم نستعد بعد وأن الله تعالى يقول { وأعدوا لهم } فطال انتظار كمال الاستعداد رغم أن بقية الآية تقول { ما استطعتم } ولم تكلفنا باكثر من حد الاستطاعة.

مصمصنا الشفاة ونحن نستمع لصورة "خيالية مثالية هلامية غامضة" تحكي لنا كيف أن صلاح الدين كان يمر على جيشه ليلاً يرى ما يصنع جنوده فلما تبين له أن الجيش ( بأكمله ) يقوم الليل انطلق بالجيش نحو حطين وبيت المقدس، فتحولت قصة الجهاد إلى حجر عثرة وجعلت شرطاً يساق إليك كلما قلت بحتمية الحرب ليثبت من خلالها مخذلك أننا لم نستعد بعد للحرب.

وتناسينا كيف أن جيش طالوت لم يكن أحسن حالاً منا الآن لما طلبوا الحرب ثم تولوا بعد أن كتب عليهم الفتال وشربوا من النهر أكثر من الشربة المسموح بها وقالوا لما فصل طالوت بهم { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } ورغم كل هذا الضياع كان النصر حليفاً للفئة الصابرة الثابتة منهم وإن كانت قليلة في وسط الكثير الغثاء، وعلت الأمة كلها وسادت وتمكنت { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين }.

أزال نظام الفساد من أذهاننا روعة وجمال مقتلنا في سبيل ما نؤمن به ورسخ في عقولنا قبيح أفكار تدعو لنبذ الحرب لأنها تجلب الدمار، رغم أن الحروب هي التي تصنع تقدم الأمم وتجعلها دائما في حالة من السعي والاجتهاد من أجل الظهور على عدوها، وعدونا الصهيوني يستمد قوته من صناعة العداوة مع جيرانه، ونحن الجيران نستمد الغباوة بتلقينا الصفعات وقولنا المسامح كريم.

وما المانع الذي يحول بيننا وبين أن نقاتل ونحارب من أجل الله وطمعا في فضل الله في نفس الوقت ؟؟!!

كان ولا يزال أكثر ما يفتخر به مبارك وابناؤه أنه "عيّشنا" في سلام، رغم أننا لم نكن نتخطف من الأرض قبله، ولم يمت آباؤنا جوعاً. ثم أصلاً ولما الخوف من الحرب إذا كنا رضينا ابتداءاً بالموت تحت ظل حكمه الرشيد، هل يعقل أن نقبل بالموت شريطة أن يكون في العبارات أو غرقي ونحن نهرب إلى إوربا أو محروقين في القطارات أو قتلى على الطرق بينما نرفض نفس الموت إن كان في سبيل الله والوطن وقضية نؤمن بها. هل هذا هو السلام الذي نتغنى به : أن نموت بلا كرامة ؟؟؟

هل السلام الذي جلبه لنا النظام الفاسد المهين أن يبعث أبناء الجيش المصري ليقاتلوا نيابة عن الأمريكان في حرب تحرير الكويت ويكونوا في الصفوف الأولى يتلقوا الرصاص في سبيل شركات البترول الغربية ومكاسب تحطيم دولة العراق.

أم أن السلام الذي جلبه لنا هو أن يبعث كوكبة من مهندسي الجيش المصري لتتحطم طائرتهم في ظروف غامضة .. ويموتوا أيضا .. هل هذا الموت الذي ارتضاه "أبونا" مبارك لجيشنا عوضا عن الموت في الحرب ؟؟

أهذا هو السلام الذي يدافعون عنه .. سلام الضعفاء وقتلى الطرق والمخنثين كما وصف ميكافيللي الفرس قديماً لما تركوا سلاحهم وركنوا إلى سلام مزعوم فقال عنهم: "هؤلاء حولهم السلام الطويل إلى أنصاف رجال مخنثين".

وبالمناسبة يقول ميكافيللي رجل السياسة الخبير الذي نصح فأخلص النصيحة السياسية لأميره لكي ينهض بأمته: " أن الأمة التي تفقد الفضائل العسكرية أمة هالكة لا محالة. والجيش لا يحتاج إلى الذهب بل إلى الرجال؛ لأن الذهب وحده لا يأتي بالجند الصالحين على الدوام، ولكن الجند الصالحين يأتون بالذهب، والذهب ينساب إلى خزائن الأمة القوية، ولكن القوة تفارق الأمة الغنية لأن الثراء يعمل على الراحة والاضمحلال؛ ولهذا يجب أن يظل الجيش مشغولاً على الدوام، فحرب صغيرة تشب من حين إلى حين تبقى العضلات العسكرية صالحة والجهاز الحربي صالحاً متأهباً."

هذه هي السياسة التي تمارسها أمريكا لتبقى على قوتها، فما من فترة زمنية في المائة عام الأخيرة بقى الجيش الأمريكي فيها ساكناً بلا حرب يدعو إلى السلام، ولم يضع عدونا الصهويني سلاحه طوال هذه المدة التي بقينا نحن نغني "اخترناك" لصوت الحكمة في المنطقة، فما أن كتب عدونا معنا سلام مزعوماً حتى تفرغ لحرب هنا ضد لبنان ثم حرب هناك ضد العزل من أبناء فلسطين وأخرى ضد حزب الله وأخيرة ضد غزة وحماس.

إذن مرحباً بالحرب، فليست كل الحروب شر وليس كل السلام خير، وأن نموت في حرب فتحيا أمة ويخلد التاريخ سيرتنا وننال نصراً أو شهادة خير لنا من أن نموت على فراشنا في سلام مذل ومهين فرضه علينا عدونا فرضاً بينما هو يتسلى بين الحين والآخر بقتل أبناءنا على الحدود، أو يلعنّا من يأتي بعدنا وهو يقرأ عنا خبراً في التاريخ لا يتجاوز السطر الواحد : "قتل في مثل هذا اليوم 1400 مصري غرقى أو محروقين".

Tuesday, August 23, 2011

لهذا أرفض العلمانية


بعيداً عن كل من وجهتي النظر المؤيدة للعلمانية كمخرج أوحد للبلاد والعباد من أزماتها والمعارضة للعلمانية كإحدى صور التبعية والتخلي عن الهوية، أجد نفسي مدفوعاً دفعاً أن أحسم أمري واتخذ موقف نحو هذه القضية بالانحياز إلى أحد الفريقين، ولكي يكون تصوري هذا مبني على حقيقة واجتهاد لا بناء على مجرد سماع من الآخرين - المؤيدين منهم والمعارضين – في برامج "اللك شو" قررت أن أبدأ بالبحث عن تعريف العلمانية عند مخترعيها وأصحابها الأصليين وطبعاً مع وجود الأنترنت كان الأمر سهل ويسير، فبمنتهى السهولة وجدت تعريف العلمانية على الويكيبيديا منقولاً عن دائرة المعارف البريطانية كالتالي:

" حركة اجتماعية تتجه نحو الاهتمام بالشؤون الأرضية بدلاً من الاهتمام بالشؤون الآخروية. وهي تعتبر جزءًا من النزعة الإنسانية التي سادت منذ عصر النهضة الداعية لإعلاء شأن الإنسان والأمور المرتبطة به بدلاً من الاهتمام بالله واليوم الأخر. فبدلاً من تحقيق غايات الإنسان من سعادة ورفاه في الحياة الآخرة، سعت العلمانية إلى تحقيق ذلك في الحياة الحالية ".

ظهرت أول مشاكل هذا المنهج من تعريفه، والكتاب يبان من عنوانه، فالعلمانية تطلب من اتباعها صرف اهتمامهم للدنيا بديلاً عن الآخرة، وهذا الطلب أجده يتعارض تماماً مع الركن الخامس من أركان إيماني الستة: الإيمان بالله – بالملائكة - بالكتب – بالرسل – باليوم الآخر – بالقدر، فكيف اتبع العلمانية عملياً واصرف اهتمامي عن الآخرة مع وجود يقين بداخلي أن أثر عملي في الدنيا لا يموت مع موتي وأتوجه بكل همتي نحو الدنيا بدلاً من الآهرة وأنا اقرأ الآية { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى }[الأعلى:16-17]

الحقيقة أن هناك مخرجا أظن أن كثير من العلمانيين العرب ( المتدينين ) ينتهجوه وهو العلمانية بالنكهة الإسلامية وهو أن تؤمن إيمان الصنف الثالث، فتؤمن بالأخرة إيماناً نظرياً معلوماتياً مع قليل من الأداء الإنفعالي بين الحين والحين عند ذكر الموت أو الآخرة، أما في المنهج العملي فتظل جالس في مكانك إلى أن يأتي الجيش فيصبحك ويجتاحك.

ويقوم أصحاب هذا المخرج بتغيير مضمون مسمى العلمانية عند أهلها ويعيدوا حشوها بمفاهيم إسلامية ويعيدوا تقديمها وتسويقها للناس على أنها لا تتعارض مع الإسلام، ويذكرني ذلك بثمرة الكوسة .. فهذه الثمرة مثل علمانيتهم تفرغ من مضمونها، ثم يعاد حشوها بغير قلبها، غير أن الكوسة بعد تغيير مضمونها يتغير اسمها ليصبح عند العقلاء "محشي" .. أما العلمانية المفرغة من مضمون ما اصطلح عليه أهلها تقدم بعد التفريغ وإعادة الحشو على أنها لازالت "علمانية" !!

والحقيقة إن درجة اللزوجة العالية في الصنف الثالث هذا تجعل هذا المخرج لا يناسبني.

فالعلمانية حسب تعريفها تسعى لإصلاح الدنيا بما توصلت إليه البشرية من علوم الدنيا حتى وإن لم يتوافق ذلك مع الشرائع الدينية، تماما كما فعلت أوربا المسيحية التي كانت قديماً تحارب الربا وتجعل آكل الربا كافر خارج من الملة وتزخر أدبياتها بالسخرية من آكلي الربا وتصورهم في أبشع الصور وتجعلهم دائما من اليهود لأن المسيحي الشريف لا يمكن أن يأكل الربا، ثم مع الوقت وزيادة حجم التبادل التجاري وسعي الأوربيين للربح الأكبر وسيطرة النظريات النفعية والمادية تخلت أوربا عن مسيحيتها – أو فلنقل طوعتها – لتجعل الربا ليس فقط مباح بل عماد اقتصادها ومؤسساتها.

المشكلة في هذا النهج المتعالى بعلوم الدنيا على شرائع الدين وهو أنه لا يمكث في الأرض إلا قليلاً ثم يظهر لنا كارثية الاعتماد عليه، ظهر ذلك في مثال الربا الذي نتحدث عنه لما توالت الأزمات الاقتصادية بسبب الأنظمة الربوية البنوك والبيوع الغير شرعية التي يعتمد عليها هذا النوع من الاقتصاد المفصول عن الدين، الأمر الذي دفع أكبر اقتصاديات العالم وبتحريض من الكنيسة نفسها للعودة إلى الشرائع الدينية بتحريم الربا والعودة إلى الفائدة صفر والاستفادة من أحكام الاقتصاد الإسلامي.

بمعنى آخر أن تخبط الإنسان في علوم الدنيا المضطربة أصلا لا يمكنه وحده أن يقيم شريعة تُصلح الدنيا، فما أن يقر قانون الإصلاح الزراعي كأسلوب عادل لتوزيع الثروات حتى يتم اكتشاف عجز الفلاح الفقير عن القيام بأعباء الزراعة ويتم التراجع عنه، وما أن يصعد قانون تأميم الشركات لمنع سيطرة رأس المال حتى يتم اكتشاف مساوئ ذلك ويعاد خصخصة الشركات وتخسر الأمة، وما أن تخترع التكنولوجيا النووية للأغراض الطبية إلا وتستخدم في إفناء البشرية.

بمعنى ثالث { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ }[الروم:7] فعلم الإنسان بقشور الدنيا لا يمكنه من القيام بإصلاح حياته فيها فما بالنا إذا أضيف إهدار الآخرة أيضاً لهذا المنهج الضعيف، فلا هو أصلح الدنيا ولا هو أصلح الآخرة.

{ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }[البقرة:200-201]

في المقابل يقدم لي الإسلام نموذج متوازن لإصلاح الدنيا عن طريق الاهتمام بالآخرة.

فقاعدة العمل في الإسلام تستمد من الأثر : " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا." والمقصود بها استمرارية العمل في أعمال الدنيا وإن لا أكف عن العمل مهما تعرضت لكبوات أو عقبات فغداً سأعيش لأزيل هذه العقبات وأحل هذه المشكلات وإن لم أحلها غداً فبعد غد أو بعده أو بعده، وبهذا المفهوم لا يكف الإنسان أبدا عن العمل لما فيه صلاح دنياه مهما تعرض لأزمات، وفي المقابل أعمل لآخرتي بكل الإخلاص والصدق وكأن هذا العمل الآخروي هو آخر ما افعله في حياتي.

لذلك لم يكن مستغرباً في الإسلام أن يباح للحجاج أن يتاجروا أثناء موسم الحج إلى الله ويعقدوا االصفقات وهم في حجهم { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ }[البقرة:197].

ولم يكن مستغرباً أن يؤمر الناس في المنهج الإسلامي بالسعي للمعايش تماماً كما يؤمرون بالصلاة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ }[الجمعة:9-10]

ولم يكن مستغرباً أن يؤجر مصلح أمر الناس في الدنيا بأكبر الأجر في الآخرة فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس "[مسلم]، أو ينال أجر المتصدقين في الآخرة لأنه زرع أو أزال أذى من الطريق فعنه صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً؛ فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة إلا كان له به صدقة "[متفق عليه] وقال صلى الله عليه وسلم : " إماطة الإذى من الطريق صدقة "[صحيح الجامع].

ولم يكن غريبا بأن يستمر أمر المسلم بإصلاح الدنيا حتى وإن حضرت الآخرة وانقطعت أعمال الدنيا وقامت القيامة من حوله، فعن النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا قامت القيامة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها"[صحيح الجامع].

هذا التوازن والربط بين الإصلاح في الدنيا وتحقيق صلاح الآخرة في نفس الوقت يجعلني عندما انظر إلى المنهجين العلماني والإسلامي لأجد أن الطامحين للآخرة هم أكثر من يسعون لإصلاح الدنيا، بينما الواقفون عند حدود علمهم بالدنيا وما وصلوا فيها من قشور العلوم هم أعجز الناس أن يصلحوا دنياهم فضلاً عن أن يصلحوا آخرتهم، ولو قامت القيامة وبيد كل من المسلم والعلماني فسيلة فإن طالب الآخر سيبادر بزراعتها رجاء الثواب في الآخرة، أما مستبدل الآخرة بالدنيا سيرى أنه لا فائدة ولا جدوى من زراعة هذه الفسيلة وقد قامت القيامة.

Tuesday, August 16, 2011

الصنف الثالث


أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب لنا مثلا لاختلاف ردود أفعال الناس نحو بعثته وما جاء به من الحق وتحذيره من غضب الله وعذابه شبه لنا حاله وحال الناس معه بمجموعة من الناس على سفر ولما جاء الليل دخلوا إلى إحدى الاستراحات ليرتاحوا حتى الصباح وبينما هم كذلك جاءهم نذير من بعيد يجري عليه علامات الفزع الشديد والخوف عليهم من خطر عظيم يكاد يصيبهم ويهلكهم ويصيح فيهم من بعيد أنه قد رأى عصابة قادمة إليكم عشان (يقلبوكم) فانجوا بأنفسكم، وتعبيرا عن خطورة الأمر الذي فيه هلاكهم لم يصبر حتى يصل إليهم ليخبرهم التفاصيل، فخلع قميصه من بعيد وأخذ يلوح به لهم ليجذب انتباههم للخطر القادم فيأخذوا حذرهم، فهو بهذا منذر عريان، وفي هذا الحرص على الإبلاغ بكل الوسائل المرئية والمسموعة تعبير عن شدة محبة هذا المنذر للناس وشفقته عليهم من الخطر القادم.

فكان ردود أفعال الناس كالتالي :

أما الصنف الأول فصدقه وشكره واعترف بفضله ونتيجة لهذا التصديق أنه قام من فوره وأثناء الليل فجمع حاجاته وركب سياراته وانطلق، فنجا رغم أنه سار على مهل لأنه نجا من العصابة فلم يعد هناك خطراً عليه يستدعي العجلة.

وأما الصنف الثاني فلم يصدقه واعتبره هوال للأمور أو كذاب ولذلك لم يفارفوا مكانهم وجلسوا حتى الصباح فاجتاحهم جيش البلطجية ( وأخد اللي وراهم واللي قدامهم )

هذه هي صنوف الناس المعتادة والتي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف.

لكن في وقتنا هذا هناك صنف ثالث غير معتاد، وغير طبيعي ... !!!

هذا الصنف الثالث قال: صدقت والله يا نذير، يا سلااام دا ربنا بعتك لينا رحمة والله، دا إحنا مش عارفين من غيرك كنا عملنا ايه؟؟ ... ربنا يجمعنا مع بعض دايماً يارب في الدنيا والآخرة، والله ما فيش زيك خالص، دا أنت تحل لنا مشاكل الدنيا وأنت تشرب فنجان من القهوة، .. ثم ماذا ؟؟؟ ثم جلس ولم يتحرك ... !!!!

النذير العريان يحذره وينبهه : ألا تصدقني ؟؟؟ قد جئتك بالحق. .. فيرد هذا الصنف العجيب: طبعا اصدقك ؟؟ يا سلام دا أنت حبيبي .. وأنا لا اقدر أن اكذبك فأنت عندي صادق مصدق وأنت عندي أغلى من أولادي !! والله العظيم مصدقك مليون المية ... ثم استمر في سمره وأكله وشربه حتى الصباح .. فهل نجا ؟؟

فرغم أنه اقسم أنه من المصدقين، وربما يظن في نفسه أنه فعلا مصدقاً، لكن تصرفه الغير مفهوم والمناقض لتصدقيه المزعوم لم ينفعه أمام الخطر القادم .. لم ينفعه التصديق بالكلام أمام هجوم الجيش .. فقد هلك مع الصنف الثاني المكذب.

[ الإيمان والتصديق هو ما وقر في القلب وصدقه العمل ]

Friday, August 12, 2011

هل نفهم معنى الشريعة ؟


في حديث فتى قريش المستئذن في الزنا كان الإجراء الأولي المتبع مع من يدعو لتعطيل حكم واحد أو بعض أحكام الشريعة - سواء كان هذا التعطيل على فرد واحد أو على كل الناس – هو الإنكار والزجر والتوبيخ المعبر عن الرفض وهو واجب عموم المسلمين بلا استثناء، وقد فعل الصحابة ذلك لأنهم تعلموا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كثيرا ما عرض عليه العز والمنعة وأسباب النجاة من البطش والقهر في مقابل تنازله عن بعض أحكام الشريعة فكان يرفض رفضاً قاطعاً.

والإجراء الثاني الذي يجب أن يقوم به المسلمون مع دعوات تعطيل أحكام الشريعة يستمد من فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل على الفتى وترجم له محاسن الشريعة، وأن الشريعة إذا منعت أمراً عليه فإن حقيقة ذلك المنع هو الخير له ولأهله وللناس أجمعين، وأنه إن وجد في نفسه حرجاً مما قضى الله تبارك وتعالى فعليه أن يطهر قلبه ويغير نفسه لا أن يسعى لتغيير الدين، لأن مقتضى الإيمان التسليم بحكم الله { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }[المائدة:65]

والنبي صلى الله عليه وسلم في سماحة وسعة صدر وفي كلمات بسيطة تناسب فهم كافة الناس شرح لذلك الفتى وترجم له مقاصد الشريعة بطريقة عملية تناسب حاجاته ومسألته.

فالشريعة هي السماحة وسعة الصدر واستيعاب الآخرين كما قال صلى الله عليه وسلم : " بعثت بالحنيفية السمحة ".

والشريعة هي رحمة الله للناس كافة { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء:107]

والشريعة هي رفع الحرج وأسباب الضيق عن الناس { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }[الحج:78]، { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ }[المائدة:6]

والشريعة هي التيسير على الناس { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }[البقرة:185]

والشريعة هي التخفيف على الناس { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ }[النساء:28]

والشريعة هي التطبيق العملي لأمر الله تعالى { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }[النحل:90]

فواجب المسلمين الثاني وفقاً لحديث المستئذن في الزنا هو تبيان الشريعة ومقاصدها ومحاسنها للناس، تماما كما فعل قدوتنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.

لكن للأسف نحن كأفراد مسلمين نعرض الشريعة بصورة عشوائية فتبدو للمستمع وكأنها شريعة قادمة من كوكب آخر، هناك من إذا سأل ماذا يحدث لو طبقت الشريعة ؟ فيجيبك أنهم لو ( طبقوا ) الشريعة - وكأنه غير مخاطب بالتكليف الآمر لتطبيق شرع الله – فسيجعلون الرجال يطلقون اللحية، وسيمنعون السجائر، وسيمنعون التلفزيون، وسيمنعون الخروج للشواطئ.

ولا أدري إن كانت هذه الشريعة فماذا كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم طوال 23 عام في وقت كان كل الرجال ملتحين ولم يكن هناك لا تلفزيون ولا سجائر ومكة والمدينة بلا شواطئ.

لقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بتطبيق وتبيان الشريعة على أكمل وجه، لذلك تجد عمقاً في فهم الصحابة رضوان الله عليهم للشريعة، ومن المواقف المبهرة الدالة على هذا الفهم العميق لمحتوى الشريعة ومقاصدها موقف ربعي بن عامر مع رستم قائد الفرس، إذ لما طلب رستم من المسلمين أن يرسلوا إليه أحدهم ليعرض عليه دينهم، فأرسل إليه سعد ابن أبي وقاص فردا عاديا من عوام جيش المسلمين – لو طلب منا أوباما مبعوثاً يعرض عليه الإسلام لاحتارنا وخضنا وبحثنا وشكلنا لجنة من كبار علماء الإزهر ولفيف من رجالات الفكر الإسلام ليعرضوا دين الله -، أرسل سعد إلي رستم ربعي بن عامر جنديا من جنود المسلمين لا من قادتهم يحمل في قلبه مثله مثل سائر أفراد الجيش فهماً كبيراً لهذا لدين فلما سأله رستم عن دينه أجاب: ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

يخرج العباد من طغيان البشر وتسلطهم واستعبادهم فالشريعة هي الحرية.

ويحقق العدل بين الناس جميعا فبعد أن كان إذا سرق الشريف يترك وإذا سرق الضعيف تقطع يده أصبح القانون سارياً على الجميع فلو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سرقت لقطع محمد صلى الله عليه وسلم يدها فالشريعة هي العدالة.

ويسعى لإخراج الناس من ضوائق المعايش بالتوسعة عليه في معايشهم بما لا يخالف أوامر الله ويحقق لهم سعادة الدنيا والنجاة في الآخرة بخلاف ما تصنعه الأنظمة الغربية التي تسعي للتوسعة في الدنيا على حساب الآخرة، فالشريعة هي الإصلاح والتنمية.

إذا فربعي قدم الشريعة من خلال ثلاث محاور وهي الحرية والعدالة والإصلاح.

ولم يقتصر فهم مضمون الشريعة على المسلمين وحسب بل إن مجهود النبي صلى الله عليه وسلم في إفهام مقاصد الشريعة وصل حتى إلى غير المسلمين فتجد أن أبا سفيان وهو لا يزال على الكفر عندما يسأله هرقل إمبراطور الروم عن النبي صلى الله عليه وسلم ومع وجود قوم من قريش معه يسمعونه يقول أبو سفيان : " لولا الحياء أن يؤثر علي كذباً لكذبت في هذا الموطن " فاضطر إلى قول الحقيقة ومفهومه عن الإسلام فلما سأله هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وماذا يأمرهم ؟ قال أبو سفيان : " يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيء واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة ".

هذه هي الشريعة كما فهمها غير المسلم من النبي صلى الله عليه وسلم، فهمها على أنها التوجه الكامل لله عز وجل وحده لا لغيره من البشر، والدعوة إلى مكارم الأخلاق.

هكذا استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصل مضمون الشريعة إلى المسلمين وغير المسلمين وهكذا كان فهمهم للشريعة وهكذا ينبغي أن نفهمها ونعرضها للناس جميعاً.

Thursday, August 11, 2011

الذين جعلوا القرآن عضين


لما جاء ذلك الشاب من قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه اسقاط حكم واحد من أحكام الشريعة - وهو حكم الزنا – عن شخص واحد فقط من أفراد المسلمين دون تطاول منه على الحكم ولا على مشرعه سبحانه وتعالى قام الصحابة إليه يزجروه ويوبخوه على فعله هذا منكرين عليه طلبه هذا، وردة فعلهم هذه تجعلنا نتسائل: إذا كان هذا هو رد فعلهم لمن طالب يإلغاء حكم شرعي واحد عن فرد واحد فكيف لو سمعوا من يطالب بإلغاء كثير أو معظم أحكام الشريعة عن جميع الناس ؟؟

إن هذا الموقف من الصحابة يعبر عن مدى فهمهم واستيعابهم لطبيعة هذا الدين الذي لا يقبل التعديل ولا التقسيم ولا يرتضي أنصاف الحلول، كما يظهر لنا ما ينبغي فعله أمام دعوات الاستغناء عن بعض أو كل الشريعة، فالصحابة - وهم في هذا الموقف يمثلوا أفراد المجتمع - عليهم أن ينكروا على أصحاب هذه الدعوات ويزجروهم ويوبخهوم، والنبي صلى الله عليه وسلم وورثته من العلماء والدعاة والمصلحين عليهم أن يبينوا لأصحاب هذه الدعوات فضل الشريعة عليهم أنفسهم وعلى أهلهم ومجتمعاتهم، وأن الشريعة إن حرمت شيء فلابد أنه سيعود في النهاية بالخير عليهم وعلي من حولهم.

والصحابة ما وصولوا إلى هذه المرحلة من الفهم العميق لطبيعة هذا الدين إلا لأنهم قرأوا القرآن فتعلموا منه قول الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً }[البقرة:208] أي ادخلوا في كافة أحكام وشرائع الإسلام وجعل سبحانه في مقابلة ذلك اتباع خطوات الشيطان { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}[البقرة:208]، فإما الدخول في كافة أحكام الإسلام وإما اتباع خطوات الشيطان.

ما وصل الصحابة إلى هذا الفهم العميق لطبيعة هذا الدين الغير تابع للاهواء ولا النفوس الأرضية إلا لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة لا يقبل الاشتراط في دين الله أو التعديل فيه.

ففي وقت كان المسلمون مستضعفين، عرضت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الشريعة بشرط واحد وهو أن يتم تداول السلطة بين شريعة الله وبين شريعة اللات والعزى وفي مقابل يكفوا أيديهم عن أذى المسلمين، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، لأن كل شريعة الله تطبق على كل الناس في كل الوقت.

وفي وقت كان الكافرون ينالون من المسلمين دمائهم وأموالهم عرض النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام على بني عامر بن صعصعة فأعجبهم أمرالنبي صلى الله عليه وسلم ولكنهم اشترطوا في دين الله وأرادوا تعديل نظام الحكم الذي يضعه الله حيث يشاء ليكون لهم وحدهم دون غيرهم فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضاً.

وعرض بنو شيبان نصرة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في كافة أرجاء المعمورة ولكنهم اشترطوا ألا يمارس الدعوة وألا تحدث مواجهة بينه وبين الفرس لما بينهم وبين الفرس من ارتباطات ومصالح فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " إن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه ".

إن الصحابة شهدوا أن قوم أرادو تعديل الدين ليحددوا أوقات الجهاد في غير أوقات الحر فرد الله عليهم رداً شديداً ووصفهم بالجهل والفسق والكفر حتى أنه أمر النبي صلى الله عليه بترك الصلاة عليهم إذا ماتوا. هذا كله وهم لم يرفضوا الجهاد بالكلية وكل ما هنالك أنهم أرادوا تعديل دين الله عز وجل ليوافق رغباتهم الدنيوية فعكس ذلك حقيقة ما في قلوبهم من نفاق.

هذه المواقف وغيرها كثير جعلت الصحابة يعون جيداً أن هذا الدين غير خاضع لرغبات التعديل أو التحجيم أو التجزئة فأنكروا ووبخوا وزجروا من قام فيهم يدعوا لهذا الفعل الشنيع.

تعلم الصحابة أن تعديل وتغيير الأديان من أفعال غير المسلمين، كالمشركين لما عدلوا الأشهر الحرم ليوافق رغباتهم، أو من أفعال أحبار ورهبان من أهل الكتابالذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال، فأنكر الله عز وجل عليه ذلك وقال لهم { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ }[البقرة:85]، أو من أفعال المنافقين الذين يقسمون الدين وفق مصالحهم { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }[النور:48-52]

قام الصحابة فزجروا ذاك الداعي إلى تعطيل حكم واحد من أحكام الشريعة على فرد واحد من أفراد المسلمين خشية أن ينزل عذاب الله وغضبه عليهم جميعا لأن الله توعد بذلك من يجعل القرآن أعضاء يعض على ما يشتهيه منه ويترك باقيه فقال { كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ }[الحجر : 90-91].

قام الصحابة على هذا الفتى يزجروه قبل أن يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم علموا أن { الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ }[الأنفال:39] وأنه لا أحد أبداً يملك حق فك ختم رضى الله عز وجل عن هذا الدين { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }[المائدة:3] ليقوم بتغيير وتعديل هذا الدين ثم يستطيع إعادة الختم مرة أخرى وإلا كان هذا كذباً وافتراءاً على الله تبارك وتعالى.

حتى النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك حق تغيير هذا الدين يقول تعالى { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }[يونس:15]، والله عز وجل يبين ما سيفعله بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو مصطفاه وحبيبه إذا عدل أو غير في شريعة الله فيقول سبحانه وتعالى { تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }[الحاقة:43-47] فكيف بمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم.

هذا الفهم وهذا الإنكار الذي يجب أن يكون عليه عموم المسلمين أمام دعوات إسقاط بعض أو كل أحكام الشريعة، أما موقف النبي صلى الله عليه وسلم فله مقام آخر إن شاء الله.

Thursday, August 04, 2011

حول القرآن في رمضان


يقول الله عز وجل { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ }[البقرة:185] والهدى هو الشيء المبلغ للغاية بأنسب وأيسر الطرق، فالتائه في الطريق إذا سأل الهداية فإنك تصف له في سماحة كيف يركب وكيف يسير إلى غايته بأقصر الطرق وأيسر المجهود عليه في أوفر الوقت، فإن لم تفعل كل ذلك معاً لم تكن له هادياً بل تكون مضللاً، والقرآن يهدي الناس إلى تحقيق غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة بأسهل وأنسب الطرق لهم.

فالهادي لابد أن يكون متمتعاً بالوضوح وإحكام الكلمات، ولابد أيضا لأن يكون لديه الحكمة أي الدراية بأحوال الطريق وحاجة السائل، ونور البصيرة، والكرم فلا يكون بخيلا في النصح وإلا الإرشاد والمعلومة، والعزة فلا ينتظر من السائل مكافآة نظير إرشاده.

وهذه الصفات جميعها ذكرها الله عز وجل عن القرآن في القرآن .. وأقصى التحدي أن تشهد لنفسك ويعجز عدوك أن يكذبك.

فالوضوح تجده في قول اله تعالى عن القرآن { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود:1]
ووصف الحكمة في قول الله عز وجل { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }[الزخرف:4] فالقرآن يعلو ولا يعلى عليه وليس فوق القرآن مبادئ ولا دستور.
وسمى الله عز وجل قرآنه النور فقال تعالى { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }[التغابن:8]
وهو القرآن الكريم إذ يقول ربنا تعالى { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } [الواقعة:77-78]
وهو الكتاب العزيز كما يقول تعالى { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ }[فصلت:41]

ولما اجتمع في القرآن جميع صفات الدليل المرشد إلى الغاية قال الله عز وجل عنه { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[إبراهيم:1] وأعطاه الله عز وجل للنبي وللمسلمين من بعده ليحكموه { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ }[المائدة:49].

والله عز وجل بين لنا أن هذا القرآن بما يحمله من أحكام هو مرشدنا وهادينا للشرف والرفعة لما قال سبحانه : { لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }[الأنبياء:10] والذكر هنا بمعنى الصيت والشرف كأن تقول فلان له ذكر طيب أو فلان ذكره في كل مكان فتعني بها مكانته ورفعة شأنه، والمعنى أن الله عز وجل أنزل كتاباً فيه ذكرنا ورفعتنا عند الله وبين الأمم والشعوب.

ويقول الله تعالى أيضا { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ }[ص:1] فهذا القرآن ذو المكانة والشرف وبالرغم من ذلك فالذين كفروا يتعززون في قبول القرآن وهم في ذلك في شقاق مع المؤمنين به لأنهم يصرون على عدم الإيمان بأحكام القرآن { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ }[سبأ:31] مهما ظهر لهم من عوار مناهجهم ودساتيرهم وفضل القرآن وعلوه عليها.

وأشد ما يُحارب في الإسلام هو حقيقة وجود القرآن بين المسلمين فمرة يقولون { إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } [الفرقان:4] .. يزعمون أن النبي يتلقى دعماً خارجياً لترويج هذه الأفكار المكذوبة ومرة أخرى يسمونه أساطير الأولين { إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ }[الأنعام:25] وسموه سحر { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ }[الأحقاف: 7] وصرحوا بعداوة القرآن { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }[فصلت:26] وهم هنا يظهرون فهما لطبيعة هذا الدين وأنهم إن أرادوا الغلبة والنصر على الإسلام فعليهم أن يحاربوا انتشار القرآن في حياة المسلمين وحصره على أرفف المكتبات والسيارات .. والمسلم عليه أن يعي أن الكافر يغلبه وينتصر عليه إن استطاع أن يصرفه عن القرآن وجعله يتخذ القرآن مهجوراً، فعندها سيكون ولا شك قد ترك الدين وعندها يشكوه الرسول إلى رب العالمين { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا }[الفرقان:30].

وقد بينت لنا الشريعة الاستراتيجية التي ينبغي على المسلم أن يعملها لكي يكون آخذا للقرأن غير تارك ولا هاجر له.

وتتمثل هذه الاستراتيجية في ثلاثة محاور

المحور الأول: هو الأمر بالقراءة والاستماع

يقول الله عز وجل : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ }[المزمل:20] وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: " اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ". ‏وفي الترمذي عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: آلم حرف، ولكن ألف حرف وميم حرف ".

المحور الثاني: وهو التدبر

وهو المقصود من القراءة ولو كان مجرد قراءة القرآن هو الغاية المنشودة لما استدعى ذلك أن يأمرنا الله تبارك وتعالى بالاستعاذة من الشيطان الرجيم { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }[النحل:98] ولكن لأن الغاية هي التدبر والشيطان حائل بين العبد وبين التدبر فقد أمرنا عند بداية القراءة أن نتهسأ للفهم والتدبر بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.

ولو كانت القراءة وخدها تكفي لما كان بيننا من يقرأ القرآن وهو مارق من الدين كما بين النبي صلى الله عليه وسلم وجاء في في البخاري عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم ، وعملكم مع عملهم ، ويقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ".

ويبين لنا الله عز وجل في كلمات واضحة مباشرة الهدف من وجود الكتاب بيننا فيقول عز وجل { كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ }[ص:29] وعاب على قلوب أقوام مغلقة أمام تدبر القرآن عند السماع أو مع القراءة فقال { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }[محمد:24].

ولا يصح أبداً أن نتعامل مع القرآن بأقل من الطريقة التي نتعامل بها مع الصحف والجرائد والمجلات .. فالواحد منا إذا انتهى من قراءة الجرنال وسُئل ماذا قرأت ؟ يكر لك كل أخبار الجرنال كراً عن ظهر غيب وبعد قراءة واحدة له في جميع صفحاته رياضة وفناً وحوادث ... فكيف بالقرآن الذي نقرأه ونسمعه كثيراً ثم إذا قرأت صفحة أو اثنتين وسُئلت عن مضمون ما قرأت لا تستطيع أن تجيب !!، فهذا نتاج القراءة بدون تدبر.

المحور الثالث: وهو العمل بأحكام القرآن

عَنْ أبي عَبْدِ الرَّحمنِ السُّلَمِيِّ قالَ: " إِنَّا أَخَذْنَا القُرآنَ عَنْ قَوْمٍ، فأخْبَرُونا أَنَّهُم كانوا إذا تَعَلَّمُوا عَشْرَ آياتٍ لم يُجاوزوهنّ إلى العَشْرِ الأُخَرِ حتى يَعْلَمُوا ما فيهنَّ مِنَ العِلْمِ. قالَ: فَتَعَلَّمْنا العِلْمَ والعَمَلَ جَمِيعاً ". وعندما جاء رجلٌ إلى أبي الدرداء وقال له: " "إنَّ ابني قد جمعَ القرآنَ "، انزعجَ أبو الدرداء من اعتبار جمع القرآن مرادف للحفظ المجرد عن العمل لهذا الطفل الصغير الذي لم يطبق أحكام القرآن جميعها ولا شك لحداثة سنه فقال للرجل : " اللهم اغفر. إنما جمعَ القرآنُ من سمِعَ له وأطاعَ" ".

يقولُ عبد الله بن عمر: " كنا صدرَ هذه الأمة وكان الرجلُ من خيارِ أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ما معه إلا السورة من القرآنِ أو شبه ذلك، وكان القرآنُ ثقيلاً عليهم، ورُزقوا العمل به، وإنَّ آخرَ هذه الأمةِ يُخفّف عليهم القرآن، حتى يقرأه الصبيُ والأعجميُ فلا يعملون به ".

فإذا كان القرآن في نفسه قد استوفى صفات المرشد والهادي فإنه لا تتحقق الهداية به إلا بإعمال هذه المحاور الثلاثة جميعها وإلا كنا كمن سأل الهداية من ناصح عليم ثم ترك قول هذا الناصح وعمد إلى غيره، ثم إذا تاه عن غايته ومقصده اتهم هذا الناصح بأنه لم يكن له دليلاً ولا مرشدا.

Monday, August 01, 2011

مسائل رمضانية



من أكل أو شرب ناسياً صيامه صحيح، وإذا تذكر والطعام في فمه يجب عليه أن يلفظه فوراً ويجب على من رآه يأكل ويشرب ناسياً أن يذكّره بصيامه.

من بلع الريق وهو صائم لا يفطر، أما النخامة والبلغم فيجب لفظهما إذا وصلتا إلى الفم.

إذا خرج الدم عند قلع الضرس أو عند النزيف أو عند التبرع بالدم. لا يفطر، ويتجنب بلع الدم الخارج من الضرس، والحجامة تفطر.

يجوز استعمال اللبوس في نهار رمضان إذا كان الصائم مريضاً ويجوز كذلك استعمال الإبر غير المغذية في الوريد والعضل، كما يجوز كذلك استعمال الحقن الشرجية للصائم في نهار رمضان.

استعمال بخاخ ضيق النفس للصائم جائز لكونه يتبخّر ولا يصلُ إلى المعدة.

استخدام المنظار الطبي من الفم للصائم لا يفطر.

إذا قاء الإنسان متعمداً فإنه يفطر، وإن قاء بغير عمد فإنه لا يفطر.

استخدام العطور أو عيدان البخور في نهار رمضان جائز.

من عجز عن الصوم لكبر السن أو المرض المزمن الذي يصعب علاجه فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً نصف صاع ( كيلو ونصف تقريباً ) من قوت البلد ( أرز مثلاً ). وإذا كان المريض يرجى له الشفاء فإنه يقضي ما فاته أثناء مرضه بعد الشفاء. والمسكين كبير أو صغير على السواء ويجوز له أن يعطى كفارة اليوم أو جميع الأيام لمسكين واحد أو لعدة مساكين، ومن لم يستطع صيام ولا اطعام فلا شيء عليه : لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

من جامع امرأته في نهار رمضان عليه القضاء ومعه صيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع الصيام فإطعام ستين مسكينا وزوجته مثله إن كانت مطاوعة أما إن كانت مكرهة فلا شيء عليها.

إذا احتلم الصائم في نهار الصوم من رمضان يستمر في صومه ولا شيء عليه.
لا يبطل الصوم باستعمال دواء الغرغرة إذا لم يبتلعه.

يجوز استعمال قطرة للأذن أو في العين في نهار رمضان لأن العين ليست منفذاً لكن لو قضى احتياطاً وخروجاً من الخلاف من وجد طعمها في الحلق فلا بأس.

إذا تمضمض الصائم أو استنشق فدخل إلى حلقه ماء دون قصد لم يفطر لأنه لم يتعمد.

يجوز تذوق الطعام عند اعداده إذا لم يتعمد ابتلاعه.

إذا افطر ظناً منه دخول المغرب فاحتياطاً يصوم يوماً مكانه، ولا يلزمك شيء طالما لم تتجانف الإثم؛ لحديث أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنهما- قَالَتْ: "أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ غَيْمٍ، ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ". لم يَردْ أنهم أُمروا بالقضاء.

إذا خافت الحامل على نفسها أو على جنينها ضرراً من الصيام في رمضان أفطرت وعليها قضاء أيام فطرها بعد زوال الخوف.

Sunday, July 31, 2011

تأملات مع دخول رمضان


كل عام وكل أمتنا بخير وسلمكم الله إلى رمضان وتسلمه منكم وأعانكم فيه على الصيام والقيام وسائر الطاعات.

يرتبط دخول شهر رمضان معنا بالفرح والسرور وخاصة لدينا هنا في مصر، فلرمضان مذاق خاص في شوارعنا وقد أزينت وانتشرت محلات الكنافة والفطايف وكثرت الزيارات بين العائلة الواحدة وبعضها وبينها وبين العائلات، كل ذلك يحمل معه البهجة والفرحة بشعيرة الله تبارك وتعالى.

وهذا الفرح بهدية الله تبارك وتعالى يكتمل بأن يرافقه عمل يناسب عظمة هذه الهدية وجلال هذه الشعيرة، وأول الأعمال التي تتبادر مع دخول شهر رمضان هي التأمل والتفكر، نصمت قليلاً ونتأمل، كفانا صخباً وصياحاً .. الكل يتكلم رغم أنهم يقولون أن الأغلبية صامتة، ولا أدري إن كان كل هذا الضجيج والأغلبية صامتة فماذا لو تكلمت هذه الأغلبية المزعومة التي لم أرها ليومنا هذا، فأنا لم أقابل إلا من يتكلم، ولا أخفيكم سرا فهذا الضجيج والصخب أمر جيد ومقبول عندي في هذه المرحلة فهو علامة الحياة وهو على كل حال أفضل من الموات الذي كنا فيه من قبل فالحمد لله على منته وفضله.

نتفكر ونتأمل كيف أن رمضان يأتي بعد تمام القمر لثمان لفات حول الأرض ومع بداية اللفة التاسعة يبدأ صيامنا، فنرى كيف أن عبادات المسلمين تتماشى مع حركة الكون فالصلوات الخمس تتزامن مواقيتها مع حركة الشمس والحج والصيام مع حركة القمر ولنا عند الخسوف أو الكسوف صلاة، ولنا عند امتناع المطر صلاة، وهكذا فإن عبادتنا تتكامل مع نظام الكون، الكون منظومة تعبد الله ونحن جزء من هذه المنظومة، فالله عز وجل يأمر الملائكة الموكلة بهذه المخلوقات والمخلوقات تنفذ أمر الله بالحركة وفق تقدير الله ونحن نمتثل لأمر الله بالعبادة، إنها منظومة تتكامل تروسها لينقل كل ترس الحركة للترس الذي يليه في آلية عمل عنوانها عبادة الله تبارك وتعالى، وإنه إن أراد ترساً في هذه المنظومة أن يتوقف أو يسير عكس اتجاه السير المقدر له فإنه ولا شك سيتحطم أو سيعاني، فإن سلم من هذا وذاك فإنه ولا شك سيكون نشاز في المنظومة مطرود من رحمة صاحبها.

في شهر رمضان نتفكر في قولتنا من قبل قدومه "اللهم بلغنا رمضان" فها أنا قد بلغت رمضان فماذا أنا فاعل ؟؟ هل أتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟؟ وهل أدرك ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان ؟

كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعد لرمضان من الشهر الذي قبله، يستعد لرمضان من شهر شعبان الذي له خاصية مميزة جدا فهو الشهر الذي ترفع فيه الأعمال إلى الله تبارك وتعالى، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي، وأنا صائم.

كان حال النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان كحال من تعرض أوراقه على جهة عليا ليتخذ فيها قرارا مصيرياً، كالطالب الذي ينتظر نتيجة التنسيق فهو يكثر من الطاعة والدعاء ليحظى بما يرجوه، أو كالموظف الذي يعرض أمره على لجنة تحقيقية فهو يدعو الله بالنجاة .. كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان وهو يستشعر أن أعماله تعرض على الله في نفس اللحظة. في شعبان من كل عام تعرض أوراقنا على الله تبارك وتعالى.

ثم ماذا بعد شعبان ؟ .. يأتي رمضان .. هل هذه مصادفة أن يأتي بعد شهر عرض الأعمال مباشرة شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، أم أن هذا لحكمة ورحمة من الله تبارك وتعالى.

هذه حكمة الله تبارك وتعالى أن يأتي ملحق تطبق فيه قوانين الرأفة بعد تصحيح الأوراق رحمة من الله ليدرك أكثرنا النجاة، يأتي شهر رمضان بعد شعبان لنزيد من الطاعات ونبالغ فيها لنعوض ما فاتنا عند عرض أعمالنا في نهاية العام المنصرم.

كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لنا فما أن ينتهي شعبان ويدخل رمضان حتى يكثر من أعمال البر والخير، فيكثر من الصدقات وقراءة القرآن مع جبريل عليه السلام، فعن عبد الله بن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن: فإذا لقيه جبريل عليه السلام، كان أجود بالخير من الريح المرسلة.

وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف في رمضان وإذا دخل عليه العشر شد المئزر، فعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان.

وكان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل بالحال التي وصفها لنا المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لما قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، فقيل له: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال : أفلا أكون عبدا شكوراً.

هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في ملحق الرحمة والمغفرة والعتق من النار وهكذا حاله في موسم الرأفة بعد شهر رفع الأعمال.

في رمضان نتذكر ونتأمل في دوران الزمان، كيف كان حالي من عام كامل في رمضان الماضي وكيف هو الآن ؟ هل زدت في الطاعة هل نقصت طاعتي؟ هل اقتربت من الله أكثر أم ابتعدت ؟ كيف حالي في ديني هل تعلمت من ديني المزيد ؟ لا تقارن أحوال الدنيا، فالدنيا إلى زوال .. ولكن قارن حالك مع الله الآن بحالك مع الله منذ عام.

اتأمل في أحوال إخواني من المسلمين .. أهلي وأصحابي وجيراني .. كم منهم كان معنا منذ عام وشهد معنا رمضان الماضي ثم هذا العام ليس معنا ؟ وكيف أن الله بنعمته وفضله مد لي في الأجل لاشهد موسماً آخر للخير في رمضان فأزيد فيه من التسبيح والتكبير والتهليل والصلاة والصيام فاتذكر ذلك واحمد الله وادع نفسي أن تغتنم هذا الشهر فقد لا أدرك ما بعده وقد يكون الأخير لي.

اتذكر واتأمل كيف كانت دولة الظلم في رمضان الماضي قائمة تمارس التنكيل والافساد في الأرض وكيف إن الله عز وجل في ايام معدودات زلزل عروشهم وأزال سلطانهم واتذكر أحوالنا البائسة وقتها وآمالنا العريضة في الغد الأفضل بإذن الله فافرح بأن لي ركن شديد قادر على التحويل والتبديل ندعوه فيستجب لنا.

Thursday, July 28, 2011

فضفضة


من البيانات التي يعالجها عقلي منذ فترة واحتار كثيرا في معالجتها بيانات مشكلة صغيرة كبيرة تحدث لي في عملي الحالي، فمنذ أكثر من عام تقريبا انتقلت إلى عمل جديد في شركة تفتح أبوابها لأول مرة في مصر تتبع لمجموعة سعودية من الناحية الفنية ولها شريك مصري مقيم في الإمارات مسئول عن الشركة من الناحية الإدارية والتأسيسية.

ولأن الشركة ناشئة وتعتبر تحت التأسيس، فقد تسائلت أنا ومعي المقبلين على العمل الجديد على نقطة هامة لنا وهي: هل الشركة تهدف للاستمرار أم هي مجرد تجربة واستطلاع جو عمل في مصر ؟ وبالطبع كانت الإجابة: أن الشركة تهدف للاستمرار والنمو في مصر فتسائلنا عن ورقيات الشركة الخاصة بالسجل التجاري والتأمينات الاجتماعية والعقود ولوائح الشركة وغير ذلك من الأمور التي تعطي للشركة صفة الرسمية والاستقرار وتطمئن العاملين بها على مستقبلهم مع هذه الشركة. فكانت إجابة الشريك المصري القاطعة أن كل هذه الأمور ستنفذ كما نحب وزي ما بيجرى في الشركات المصرية وإنه فقط سينتظر ستة أشهر قبل أول نزول له لمصر لاتمام هذه الاوراق، فكان هذا هو اتفاقنا.

وبعد مرور 6 شهور لم يحدث أي جديد ..

وبعد 7 شهور ولما لم أجد أي بادرة تكلمت معه وشرحت له أن الشركة بهذه الطريقة ليست شركة تدفع للاستقرار بها لأن اتمام الأوراق هو المؤشر لجدية أصحاب الشركة وعلى رغبتهم في الاستمرار والحفاظ على العاملين معهم.

فكانت إجابته أنه متفق تماما معي فيما أقول وان هذا حقي وهو متمسك بنا جميعاً غير أن ظروف سفره وإقامته بالخارج تجعل الموضوع يمر ببطء وأنه وكّل محامي ليقوم بهذه الإجراءات نيابة عنه وسيتابع مع المحامي. وأضاف أنه لا ينبغي علي أن اركز في هذه المسألة وعلي أن اركز في الإيجابيات مثل انه يعاملني والآخرين كأخ وأننا جميعا متحابون وعلاقة الثقة بيننا تفوق كل شيء آخر وأنه صبر كثيراً حتى اختارنا نحن بالذات دون كل المتقدمين لأننا نحقق له ما كان يخطط له دائماً في موظفيه، وكثير من مثل هذا الثناء البديع.

حاولت مراراً أن انقل له مخاوفي وقلت له أن هذا كلام جميل وهو متبادل لكن أين الفعل .. نحن بحاجة إلى فعل اثبات على ما تقول وعلى جدية الشركة، وبالنسبة لي لا يعنيني تأمينات ولا أوراق إلا من هذا الوجه .. وجه اثبات جديته في انشاء هذه الشركة وتمسكه بالعاملين معه خاصة في ظل حالة عدم الرؤية في تعاملتنا مع الشركة فنحن لا نرى الشركاء السعوديين ولا نر الشريك المصري وكل ما بيننا هو الموبايلات والماسنجرات والإيميلات. بالإضافة إلى بعد المسافة واختلاف طبيعة وخلفية البيئة لكل منا مع اهمالهم المتعمد وتجاهلهم المستمر لكل الاهتمامات المشتركة بيننا.

فأكد لي أنه سيفعل كل ما بوسعه لاثبات هذه الجدية .. فصبرت وانتظرت.

والآن بعد مرور أكثر من عام أثير موضوع التأمينات من جديد ولكن من طرف آخر غيري، فاتصل بي الشريك المصري ليناقشني في المسألة وكان كلامه أكثر عنفاً وحدة وكانت نظريته كلها تنبني على أن التأمينات الاجتماعية حرام شرعاً وأنه لا يريد أن يعصي الله عز وجل وأنه آجلا أو عاجلاً لازم حيعمل التأمينات دي لأن القانون يلزمه بيها وعلينا ان ننتظر ولا نطالبه بها وأضاف أنه لما يعملها حيجعلها على الحد الأدني الذي يخرجه فقط من المشاكل القانونية وإن احنا لازم ما نفكرش في الموضوع دا حاليا ونحمد الله ولا نكثر الكلام والضغط عليه في هذا الموضوع كل شوية لأنه أصلا حرام ومعصية لله ويجب أن نلتفت إلى الاشياء الأخرى العظيمة التي يقدمها لي فقد اختارني من بين .. إلخ ... ووضع ثقته ... إلخ ..... والمحبة التي بيننا ... إلخ وإننا كإخوات لا يمكن أن ... إلخ

كررت عليه كثيرا أني أقدر هذه الكلمات التي احسبها صادقة ولا أكذبها، غير أن موضوع التأمينات بالنسبة لي لا يعدو كونه اثبات اتصال بيني وبين الشركة وأنا في حاجة حقيقية لمثل هذا الاثبات .. واحتاج حافز يدفعني والعاملين معي للاستقرار ليس أكثر في الظروف الغير طبيعية للشركة .. وتعجبت من طلبه ألا نتكلم في إدارة الشركة ففي أي شيء نتكلم إذن ؟؟ عن السياسة ؟؟ عن القنوات الفضائية وبرامجها ؟؟ عن وصفات الطعام ؟؟ .. أنا ممكن اتحدث عن هذه الأمور ولكن لما استوفي المشاكل التي تقلقني أولاً ...

أصر على عدم فهم معادلتي للموضوع واستمر في الحديث عن التقوى والورع وانا في منزلة التلميذ العاصي المحرض على المعاصي الذي لا يأبه للدين ولا لحكم الله ويؤثر الدنيا وشهواتها على الاخرة .. لم يتوقف ليدرك وقع كلماته القاسي علي وهو يلخصني في كوني معصيته وذنبه وخطيئته .. ويكررها كثيرا كثيرا جدا على أذني .. كثيرا جدا اكثر مما اتوقع منه .. ويكرر أنت لا شيء سوى جريمة، أنت لست أكثر من معصية، أنت لا شيء سوى خطيئة. كلامك معصية، وجهك ورؤيته معصية، وما تدفعه إلينا معصية، وما تأخذه منا معصية، والهواء الذي تتنفسه معصية. شعور عجيب عندما يختصرك الآخرون في معصية.

لم أناقش معه المسألة من الناحية الشرعية فمسألة التأمينات الاجتماعية وإن كان فيها من يقول بحرمتها فهناك من أهل بلدي الذين يقولون بجوازها ..

لم اناقش أننا من قبل اتفقنا على مبادئ عدة غير هذه المسألة ولم ينصفني فيها رغم أن الدين يعطيني الحق فيها، والدين إن كان – كما يزعم - يحرم التأمينات فهو أيضا يحرم التغرير والمماطلة في الحقوق في بقية المواضيع المتفق عليها والتي لا يشوبها حرمة، لم اناقشه في أني بفضل الله قد بلغت رشدي وأني قادر على التمييز وأني أحاول قدر جهدي أن اتق الله وأنه كان ينبغي عليه إن يكون صريحاً معي منذ البداية .. لم اناقش معه تمسكه بالدين في أبواب مصلحته وتجاهله لنفس الدين أيضاً من أجل مصلحته ذلك برغم أني لا اتهمه في دينه.

لم اقل له أنه ورغم وضع الشركة الغامض فالله يعلم أني أراعي ضميري وديني في هذا العمل واقدم ما استطيع وفاءا بهذا العهد الذي بيننا، لكن كل أشيائي التي اقدمها كانت لا تثمن وتهمل وتترك حبيسة الادراج دليلا على هوانها عند متلقيها.

كل ما فعلته هو اني احترمت اختياره وقدمت له بديلا يخرجنا من الأزمة .. ويرحمنا من النقاش .. قلت له إن كان هذا اختيارك فلا مانع عندي أن نترك هذه المسألة شريطة أن تستوفي بقية المسائل المعلقة ويتم اضافة المبلغ الذي كان سيصرف للتأمينات على رواتبنا ويكون في ذلك وفاءا بتعهداتك لنا واحتراما منا لاختياراك بحرمة التأمينات الاجتماعية.

لكنه طبعاً لم يوافق على البديل ... وبدون ابداء أي اسباب .. وخرجنا من المحادثة بخلاصة تتضمن فقط استيائه الشديد من تصرفاتي وأنه كان يتوقع مني تقديراً أفضل من ذلك للظروف وأن كل ما أفكر فيه هو مصلحتي الخاصة وطلباتي دون النظر لمصلحة الشركة وأني عصبي وحاد في تعاملاتي ويجب أن أعيد النظر في طريقة معاملاتي .. إلخ.

المعادلة تقول أن صاحب العمل إذا تراخى بهذا الشكل وأهمل وخالف باعترافه عهوده - حلالها قبل حرامها - مع موظفيه وتمادى في المماطلة والتسويف فإن ذلك معناه إما عدم جديته أو عدم احترامه وتقديره للعاملين معه، وهذا معناه أنه اكتشف خطأه في الاختيار ويتطلع لنموذج آخر غيرنا ولهذا تحول عن اتفاقه معنا فهذا وحده ما يزن المعادلة، ومن المؤكد أن هناك من هم أفضل مني واكفأ في مجال عملي ولكن هذا أبدا لا يعطيه الحق ألا يحترمني وألا يوفي التزامه معي ويجمد الوضع بهذا الشكل إلى أن يأتي بمن هو أفضل مني وأقل تطلباً .. كما أن إشارته المستمرة بأنه خدع كثيرا فأوصي بألا يثق في الناس هي بالنسبة لي إشارة بغيضة تحمل الكثير من الظلم إذ يزعم أن حذره المبالغ فيه في كل خطوة تتطور معها شركتنا الناشئة هو نتيجة ما أصابه مراراً من قبل نتيجة ثقته في الناس وكأني سأسرق أمواله من جيبه، وكأني مثل الآخرين، وكأني لابد لي أن أرضى بان يعاقبني على غفلته ويحملني جريرة خداع الآخرين له .. ويؤثر وصايا الناصحين له على ثقته المزعومة في.

المعادلة تقول أن الكلمات لابد أن يرافقها أفعال لا يمكن لكلمات الثقة والأخوة وحدها أن تقيم جسور الثقة والأخوة والمحبة، فلابد أن يرافقها أفعال وليس الفعل بديلا عن الكلام ولا العكس، وأنه لو أراد حقاً لهذا الشركة أن تقوم لكانت رغبته حافز لسرعة معالجة المواضيع المعلقة وأسباب المشاكل بيننا إظهارا للاهتمام، وعندها إن بقيت مسألة أو اثنتين لم يتم حلهما فلا بأس عندئذ لما استوفى جهده لانشاء الشركة وسأكون راضياً مرضياً عن سعيه لما أراه من فعله.

أما نظرية أن الموظف لا يعجبه العجب ومهما فعلت فلن يرضى فهي نظرية إداري فاشل إما معوق يعلق عجزه عن القيام بواجبه تجاه مرءوسيه على غيره، أو ظالم نرجسي لا يأبه ولا يشعر إلا بما تقدمه نفسه. لذلك تجده دائما يسوق لك أسبابه لرفض كل شيء تطلبه منه ما دام لم يخرج منه طواعية، وتقدم له البدائل التي تتجنب اسبابه للرفض لكنه يصر على الرفض، حتى إذا ما اتزنق رفض هذه المرة دون حتى ابداء اسباب، واحيانا يظهر عطفه الشديد بانه كان سيفعل طلبك من تلقاء نفسه لولا أنك يا مغفل فعلت كذا وكذا فتسببت بصنيعك الجهول في أن يحجم هو عن الاستجابة لطلبك .. وهكذا هو دائما لا يفعل ولديه المبرر لئلا يفعل.

الأم التي لا ترضي زوجها وتطالب ابناءها ببرها وتذكرهم بالدين تستغل الدين لمصلحتها، والصنايعي الذي يطالب بأجرته كاملة وأزيد ويذكر من استأجره بحق الله وهو لا يراعي الله في عمله يستغل الدين لمصلحته، وصاحب العمل الذي يطالب العاملين بتقوى الله في العمل بينما لا يعطيهم حقوقهم كاملة نظير جهدهم يستغل الدين لمصلحته .. والتورع الكاذب هو الذي يجعل كل أمر على هواك وفيه مصلحة لك هو أصل الدين وذروة سنامه ومخالفك فيه عاص جاهل وينسيك أن الله قد قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فالدين ليس مطية لأحد يحقق به راحته ومصلحته على حساب الآخرين، وأجدر بك وأكرم وأعز أن تصارح نفسك ومن حولك بحقيقة مصالحك وتدافع عنها إن تعارضت مع الاخرين من أن تجعل ورعك خنجرا تطعن به الآخرين.