Tuesday, September 10, 2013

الفجر الكاذب والفجر الصادق



الآن، وبعد ذهاب السكرة ومجيء الفكرة، دعونا نتأمل السماء بهدوء، سندرك أن ما حدث كان لابد أن يحدث. نعم، هذه السنة كونية تحدث كل ليلة، فلماذا نظن أن ليلنا سيختلف عن باقي الليالي ؟ ولماذا نظن أن الفجر يظهر فجأة دون فجر كاذب قبله ؟

سنة الله التي تجري كل ليلة منذ زمن بعيد لا تتغير من أجل أحد، الفجر الصادق يسبقه دائماً فجر كاذب .. لم نسمع أن هذا السنن تغير يوماً لنبي مكرم أو عبد صالح. فبالطبع لن تتغير من أجلنا، بل نحن الذين يجب علينا أن نتغير ونعقل سنن الله في كونه، ونوجه خططنا ووسائلنا وأهدافنا الكبرى منها والصغرى لتساير هذه السنن لا أن تعاكسها أو تتحداها.

نحن نعلم إن هذا النور الذي ضرب في ظلمة ليل السماء لم يكن نوراً حقيقياً، بل كان فجراً كاذباً، لما اقترب سراج الشمس من أرضنا انعكس نوره على جسيمات وذرات عالقة بين الأرض والسماء، فما لبث أن ظهر نورٌ مستطيلٌ ضارباً من أسفل إلى أعلى .. وليس هكذا الفجر قطعاً إنما ينفجر الفجر انفجاراً مستطيراً على رؤوس الجبال.

قال عطاء: فأما إذا سطع سطوعاً في السماء، وسطوعه أن يذهب في السماء طولاً فإنه لا يحرم به شراب لصيام ولا صلاة، ولا يفوت به حج ، ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال.


من قال أن الضوء الضارب عمودياً فجأة من أسفل إلى أعلى هو نور حقيقي، إن النور لا ينتشر هكذا .. بل ينتشر أفقياً ويعلو ممتداً ما بين الشمال والجنوب، فيعلوا ويعلوا على الأفق حتى يمحى الظلام.

وكان للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذنان للفجر، فبلال بن رباح يؤذن في وقت الفجر الكاذب، وابن أم مكتوم في وقت الفجر الصادق، وكان يوضح لصحابته الكرام أن هذا الآذان الأول المصاحب لبزوغ الفجر الكاذب إنما هو للتنبيه والاستعداد لما هو قادم ولا يتعلق به أي أحكام على الحقيقة ... فمن كان منكم يقوم الليل فلينته من قيامه وليذهب فيتسحر استعدادا للصيام، ومن كان نائماً فليقم من نومه وليستعد لأداء صلاته .. فهذا الآذان وهذا الفجر المستطيل تنبيه ليأخذ كل منا استعداده لما هو آت ...

في البخاري عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يَمنَعَنَّ أحدَكُم، أو أحدًا منكُم، أذانُ بلالٍ مِن سَحورِهِ، فإنَّه يُؤَذِّنُ، أو يُنادي بلَيلٍ، ليَرجِعَ قائِمَكُم، وليُنَبِّهَ نائِمَكم، وليس أنْ يقولَ الفجرُ، أو الصُّبحُ . وقال بأصابعِهِ، ورَفعَها إلى فوقُ، وطأطَأ إلى أسفَلُ: حتى يقولَ هكذا. وقال زُهَيرٌ بسَبَّابَتَيهِ، إحداهُما فوقَ الأُخرَى، ثم مَدَّها عَن يَمينِهِ وشِمالِهِ.

ثم في أكثر من موطن أكد النبي صلى الله عليه وسلم على إن الفجر الكاذب وإن كان للتنبيه إلا أنه لا ينبني عليه أحكام فلا يحل محرم ولا يحرم حلال.

ففي صحيح مسلم عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يغرنَّكم من سحورِكم أذانُ بلالٍ، ولا بياضُ الأفقِ المستطيلِ هكذا ، حتى يستطيرَ هكذا.


وعند الحاكم والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الفجرُ فجرانِ ، فأمَّا الفجرُ الذي يكونُ كذنَبِ السَّرْحانِ فلا يُحِلُّ الصلاةَ، ولَا يُحَرِّمُ الطعامَ، وأَما الفجرُ الذي يذهبُ مُسْتَطِيلًا في الأفُقِ ، فإِنَّه يُحِلُّ الصلاةَ، ويُحَرِّمُ الطعامَ.

وهذا الفجر الكاذب ينخدع فيه الكثير منا فهو يظهر فجأة ثم ما يلبث أن يختفي من جديد ، فهو مؤقت، فالذين ليس لديهم خبرة بأحوال السماء والذين لا يعلمون، والذين يتعجلون ظهور النور استثقالاً لظلمة الليل فيظنون أنه الفجر الحقيقي فيقومون ويسعون إلى الصلاة، خاصة أولئك القاطنين في المدن، الذين اختلط عليهم ضياء النجوم اللامعة مع تلك الأنوار الاصطناعية الصاخبة القبيحة المنتشرة في أنحاء المدينة، فصاروا لا يميزون بدراً من هلال، فأولئك أبعد ما يكونوا عن تمييز الفجر الصادق من الكاذب، فسيختلط عليهم الحال ولا شك، ولعلهم يُصلّون الصبح في غير وقت الصلاة ويخلدون إلا النوم قبل ظهور الفجر.

لكن أهل العلم والخبرة والدراية بسنن السماء وأحوالها على حذر ومهل لا يخدعهم صعوده فجر ذنب السرحان المفاجئ ولا يتعجبون لرحيله بعد قليل وهم على يقين بأنه - وإن كان فجراً كاذباً - إلا إنه بشارة وإشارة بقرب وحتمية وصول الفجر الحقيقي الذي يتعلق به الأحكام ويبدأ معه اليوم الجديد.

وهم - هؤلاء الذين يعلمون – يدركون أن هذا الوقت الذي يأتي بعد الفجر الكاذب هو أشرف الأوقات وأعظمها بركة إنه وقت السحر الذي ورغم ثقله على الإنسان وشدة طلبه فيه للنوم والراحة إلا إن هو نفسه الوقت الذي ينشغل فيه عباد الله المؤمنين بالاستغفار والذكر { وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } انتظاراً واستعداداً للفجر القادم يقيناً.

وأنه ورغم لحظات الإعتام والظلمة اللي تحملها تلك اللحظات بعد الفجر الكاذب إذ تشتد ظلمة السماء أكثر مما كانت عليه قبله، إلا أن هذا الوقت هو الذي يحدث فيه أهم وأعظم وأجل حدث إذ ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له حتى ينفجرالفجر.


من خطبة الجمعة للدندراوي.

4 comments:

Anonymous said...

تصدقنى لو قلت لك ان الكلام ده من أفضل ما قرأت... يتنزل على الروح كالماء الفرات فيمسح عنها أدران الهواجس والريب
ويجلو ما قد يعتريها من خطوب ورزايا قد تذهب بالعقل الذى كان يترنح فى غياهب ما يظنه فجرا وهو لم يكن... ثم تشتد عليه النوائب فيحاصره الظلام المدلهم يكاد لايبصر يده... فتنشر تلكم الكلمات من روحها ما يبشره أن لا عليك فالفرح... والفرج دانيان...ولكن هذا قرين بأن تصدق فى سعيك فى تلك اللحظات الحالكة لتكون جديرا بما بعدها من انفراج
تسلم ايدك يا باشمهندس
أمولة... أمولة... امولة :)

ammola said...

على فكرة
التعليق اللى فوق ده بتاعى
:)

ma 3lina said...

تسلم إيدك .. وحتى لو ما علقتيش باسمك .. فمين في بر مصر كلاته يعرف يكتب هذه الكلمات الرائعة الرشيقة المتضمنة خلاصة ما يحاول أمثالي إيصاله بكلام كتير مكعبل في بعضه.

زادت مدونتي شرفاً وبريقاً وتزينت بتعليق حضرتك.

IR said...

🙂