لما جاء ذلك الشاب من قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه اسقاط حكم واحد من أحكام الشريعة - وهو حكم الزنا – عن شخص واحد فقط من أفراد المسلمين دون تطاول منه على الحكم ولا على مشرعه سبحانه وتعالى قام الصحابة إليه يزجروه ويوبخوه على فعله هذا منكرين عليه طلبه هذا، وردة فعلهم هذه تجعلنا نتسائل: إذا كان هذا هو رد فعلهم لمن طالب يإلغاء حكم شرعي واحد عن فرد واحد فكيف لو سمعوا من يطالب بإلغاء كثير أو معظم أحكام الشريعة عن جميع الناس ؟؟ إن هذا الموقف من الصحابة يعبر عن مدى فهمهم واستيعابهم لطبيعة هذا الدين الذي لا يقبل التعديل ولا التقسيم ولا يرتضي أنصاف الحلول، كما يظهر لنا ما ينبغي فعله أمام دعوات الاستغناء عن بعض أو كل الشريعة، فالصحابة - وهم في هذا الموقف يمثلوا أفراد المجتمع - عليهم أن ينكروا على أصحاب هذه الدعوات ويزجروهم ويوبخهوم، والنبي صلى الله عليه وسلم وورثته من العلماء والدعاة والمصلحين عليهم أن يبينوا لأصحاب هذه الدعوات فضل الشريعة عليهم أنفسهم وعلى أهلهم ومجتمعاتهم، وأن الشريعة إن حرمت شيء فلابد أنه سيعود في النهاية بالخير عليهم وعلي من حولهم. والصحابة ما وصولوا إلى هذه المرحلة من الفهم العميق لطبيعة هذا الدين إلا لأنهم قرأوا القرآن فتعلموا منه قول الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً }[البقرة:208] أي ادخلوا في كافة أحكام وشرائع الإسلام وجعل سبحانه في مقابلة ذلك اتباع خطوات الشيطان { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}[البقرة:208]، فإما الدخول في كافة أحكام الإسلام وإما اتباع خطوات الشيطان. ما وصل الصحابة إلى هذا الفهم العميق لطبيعة هذا الدين الغير تابع للاهواء ولا النفوس الأرضية إلا لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة لا يقبل الاشتراط في دين الله أو التعديل فيه. ففي وقت كان المسلمون مستضعفين، عرضت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الشريعة بشرط واحد وهو أن يتم تداول السلطة بين شريعة الله وبين شريعة اللات والعزى وفي مقابل يكفوا أيديهم عن أذى المسلمين، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، لأن كل شريعة الله تطبق على كل الناس في كل الوقت. وفي وقت كان الكافرون ينالون من المسلمين دمائهم وأموالهم عرض النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام على بني عامر بن صعصعة فأعجبهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولكنهم اشترطوا في دين الله وأرادوا تعديل نظام الحكم الذي يضعه الله حيث يشاء ليكون لهم وحدهم دون غيرهم فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضاً. وعرض بنو شيبان نصرة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في كافة أرجاء المعمورة ولكنهم اشترطوا ألا يمارس الدعوة وألا تحدث مواجهة بينه وبين الفرس لما بينهم وبين الفرس من ارتباطات ومصالح فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " إن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه ". إن الصحابة شهدوا أن قوم أرادو تعديل الدين ليحددوا أوقات الجهاد في غير أوقات الحر فرد الله عليهم رداً شديداً ووصفهم بالجهل والفسق والكفر حتى أنه أمر النبي صلى الله عليه بترك الصلاة عليهم إذا ماتوا. هذا كله وهم لم يرفضوا الجهاد بالكلية وكل ما هنالك أنهم أرادوا تعديل دين الله عز وجل ليوافق رغباتهم الدنيوية فعكس ذلك حقيقة ما في قلوبهم من نفاق. هذه المواقف وغيرها كثير جعلت الصحابة يعون جيداً أن هذا الدين غير خاضع لرغبات التعديل أو التحجيم أو التجزئة فأنكروا ووبخوا وزجروا من قام فيهم يدعوا لهذا الفعل الشنيع. تعلم الصحابة أن تعديل وتغيير الأديان من أفعال غير المسلمين، كالمشركين لما عدلوا الأشهر الحرم ليوافق رغباتهم ، أو من أفعال أحبار ورهبان من أهل الكتاب الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال، فأنكر الله عز وجل عليه ذلك وقال لهم { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ }[البقرة:85]، أو من أفعال المنافقين الذين يقسمون الدين وفق مصالحهم { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }[النور:48-52] قام الصحابة فزجروا ذاك الداعي إلى تعطيل حكم واحد من أحكام الشريعة على فرد واحد من أفراد المسلمين خشية أن ينزل عذاب الله وغضبه عليهم جميعا لأن الله توعد بذلك من يجعل القرآن أعضاء يعض على ما يشتهيه منه ويترك باقيه فقال { كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ }[الحجر : 90-91]. قام الصحابة على هذا الفتى يزجروه قبل أن يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم علموا أن { الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ }[الأنفال:39] وأنه لا أحد أبداً يملك حق فك ختم رضى الله عز وجل عن هذا الدين { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }[المائدة:3] ليقوم بتغيير وتعديل هذا الدين ثم يستطيع إعادة الختم مرة أخرى وإلا كان هذا كذباً وافتراءاً على الله تبارك وتعالى. حتى النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك حق تغيير هذا الدين يقول تعالى { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }[يونس:15]، والله عز وجل يبين ما سيفعله بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو مصطفاه وحبيبه إذا عدل أو غير في شريعة الله فيقول سبحانه وتعالى { تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }[الحاقة:43-47] فكيف بمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم. هذا الفهم وهذا الإنكار الذي يجب أن يكون عليه عموم المسلمين أمام دعوات إسقاط بعض أو كل أحكام الشريعة، أما موقف النبي صلى الله عليه وسلم فله مقام آخر إن شاء الله. |
Thursday, August 11, 2011
الذين جعلوا القرآن عضين
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment