يقول الله عز وجل { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ }[البقرة:185] والهدى هو الشيء المبلغ للغاية بأنسب وأيسر الطرق، فالتائه في الطريق إذا سأل الهداية فإنك تصف له في سماحة كيف يركب وكيف يسير إلى غايته بأقصر الطرق وأيسر المجهود عليه في أوفر الوقت، فإن لم تفعل كل ذلك معاً لم تكن له هادياً بل تكون مضللاً، والقرآن يهدي الناس إلى تحقيق غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة بأسهل وأنسب الطرق لهم. فالهادي لابد أن يكون متمتعاً بالوضوح وإحكام الكلمات، ولابد أيضا لأن يكون لديه الحكمة أي الدراية بأحوال الطريق وحاجة السائل، ونور البصيرة، والكرم فلا يكون بخيلا في النصح وإلا الإرشاد والمعلومة، والعزة فلا ينتظر من السائل مكافآة نظير إرشاده. وهذه الصفات جميعها ذكرها الله عز وجل عن القرآن في القرآن .. وأقصى التحدي أن تشهد لنفسك ويعجز عدوك أن يكذبك. فالوضوح تجده في قول اله تعالى عن القرآن { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود:1] ووصف الحكمة في قول الله عز وجل { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }[الزخرف:4] فالقرآن يعلو ولا يعلى عليه وليس فوق القرآن مبادئ ولا دستور. وسمى الله عز وجل قرآنه النور فقال تعالى { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }[التغابن:8] وهو القرآن الكريم إذ يقول ربنا تعالى { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } [الواقعة:77-78] وهو الكتاب العزيز كما يقول تعالى { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ }[فصلت:41] ولما اجتمع في القرآن جميع صفات الدليل المرشد إلى الغاية قال الله عز وجل عنه { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[إبراهيم:1] وأعطاه الله عز وجل للنبي وللمسلمين من بعده ليحكموه { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ }[المائدة:49]. والله عز وجل بين لنا أن هذا القرآن بما يحمله من أحكام هو مرشدنا وهادينا للشرف والرفعة لما قال سبحانه : { لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }[الأنبياء:10] والذكر هنا بمعنى الصيت والشرف كأن تقول فلان له ذكر طيب أو فلان ذكره في كل مكان فتعني بها مكانته ورفعة شأنه، والمعنى أن الله عز وجل أنزل كتاباً فيه ذكرنا ورفعتنا عند الله وبين الأمم والشعوب. ويقول الله تعالى أيضا { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ }[ص:1] فهذا القرآن ذو المكانة والشرف وبالرغم من ذلك فالذين كفروا يتعززون في قبول القرآن وهم في ذلك في شقاق مع المؤمنين به لأنهم يصرون على عدم الإيمان بأحكام القرآن { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ }[سبأ:31] مهما ظهر لهم من عوار مناهجهم ودساتيرهم وفضل القرآن وعلوه عليها. وأشد ما يُحارب في الإسلام هو حقيقة وجود القرآن بين المسلمين فمرة يقولون { إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } [الفرقان:4] .. يزعمون أن النبي يتلقى دعماً خارجياً لترويج هذه الأفكار المكذوبة ومرة أخرى يسمونه أساطير الأولين { إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ }[الأنعام:25] وسموه سحر { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ }[الأحقاف: 7] وصرحوا بعداوة القرآن { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }[فصلت:26] وهم هنا يظهرون فهما لطبيعة هذا الدين وأنهم إن أرادوا الغلبة والنصر على الإسلام فعليهم أن يحاربوا انتشار القرآن في حياة المسلمين وحصره على أرفف المكتبات والسيارات .. والمسلم عليه أن يعي أن الكافر يغلبه وينتصر عليه إن استطاع أن يصرفه عن القرآن وجعله يتخذ القرآن مهجوراً، فعندها سيكون ولا شك قد ترك الدين وعندها يشكوه الرسول إلى رب العالمين { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا }[الفرقان:30]. وقد بينت لنا الشريعة الاستراتيجية التي ينبغي على المسلم أن يعملها لكي يكون آخذا للقرأن غير تارك ولا هاجر له. وتتمثل هذه الاستراتيجية في ثلاثة محاور المحور الأول: هو الأمر بالقراءة والاستماع يقول الله عز وجل : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ }[المزمل:20] وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: " اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ". وفي الترمذي عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: آلم حرف، ولكن ألف حرف وميم حرف ". المحور الثاني: وهو التدبر وهو المقصود من القراءة ولو كان مجرد قراءة القرآن هو الغاية المنشودة لما استدعى ذلك أن يأمرنا الله تبارك وتعالى بالاستعاذة من الشيطان الرجيم { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }[النحل:98] ولكن لأن الغاية هي التدبر والشيطان حائل بين العبد وبين التدبر فقد أمرنا عند بداية القراءة أن نتهسأ للفهم والتدبر بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم. ولو كانت القراءة وخدها تكفي لما كان بيننا من يقرأ القرآن وهو مارق من الدين كما بين النبي صلى الله عليه وسلم وجاء في في البخاري عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم ، وعملكم مع عملهم ، ويقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ". ويبين لنا الله عز وجل في كلمات واضحة مباشرة الهدف من وجود الكتاب بيننا فيقول عز وجل { كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ }[ص:29] وعاب على قلوب أقوام مغلقة أمام تدبر القرآن عند السماع أو مع القراءة فقال { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }[محمد:24]. ولا يصح أبداً أن نتعامل مع القرآن بأقل من الطريقة التي نتعامل بها مع الصحف والجرائد والمجلات .. فالواحد منا إذا انتهى من قراءة الجرنال وسُئل ماذا قرأت ؟ يكر لك كل أخبار الجرنال كراً عن ظهر غيب وبعد قراءة واحدة له في جميع صفحاته رياضة وفناً وحوادث ... فكيف بالقرآن الذي نقرأه ونسمعه كثيراً ثم إذا قرأت صفحة أو اثنتين وسُئلت عن مضمون ما قرأت لا تستطيع أن تجيب !!، فهذا نتاج القراءة بدون تدبر. المحور الثالث: وهو العمل بأحكام القرآن عَنْ أبي عَبْدِ الرَّحمنِ السُّلَمِيِّ قالَ: " إِنَّا أَخَذْنَا القُرآنَ عَنْ قَوْمٍ، فأخْبَرُونا أَنَّهُم كانوا إذا تَعَلَّمُوا عَشْرَ آياتٍ لم يُجاوزوهنّ إلى العَشْرِ الأُخَرِ حتى يَعْلَمُوا ما فيهنَّ مِنَ العِلْمِ. قالَ: فَتَعَلَّمْنا العِلْمَ والعَمَلَ جَمِيعاً ". وعندما جاء رجلٌ إلى أبي الدرداء وقال له: " "إنَّ ابني قد جمعَ القرآنَ "، انزعجَ أبو الدرداء من اعتبار جمع القرآن مرادف للحفظ المجرد عن العمل لهذا الطفل الصغير الذي لم يطبق أحكام القرآن جميعها ولا شك لحداثة سنه فقال للرجل : " اللهم اغفر. إنما جمعَ القرآنُ من سمِعَ له وأطاعَ" ". يقولُ عبد الله بن عمر: " كنا صدرَ هذه الأمة وكان الرجلُ من خيارِ أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ما معه إلا السورة من القرآنِ أو شبه ذلك، وكان القرآنُ ثقيلاً عليهم، ورُزقوا العمل به، وإنَّ آخرَ هذه الأمةِ يُخفّف عليهم القرآن، حتى يقرأه الصبيُ والأعجميُ فلا يعملون به ". فإذا كان القرآن في نفسه قد استوفى صفات المرشد والهادي فإنه لا تتحقق الهداية به إلا بإعمال هذه المحاور الثلاثة جميعها وإلا كنا كمن سأل الهداية من ناصح عليم ثم ترك قول هذا الناصح وعمد إلى غيره، ثم إذا تاه عن غايته ومقصده اتهم هذا الناصح بأنه لم يكن له دليلاً ولا مرشدا. |
Thursday, August 04, 2011
حول القرآن في رمضان
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment