Saturday, June 18, 2011

الرجل التركي


أقبل نحوي وهو يحمل "كاميرته الديجيتال" يشير إلى شيء أحمر يتوهج على شاشتها وينطق بكلمات متتالية متتابعة سريعة بلغته التركية.
طبعاً لثقافتي العربية الأصيلة وبصيرتي المصرية النافذة في أساليب الحوار أدركت من الوهلة الأولى ما لم يدركه هذا الرجل التركي الطيب وهو استحالة التواصل بيننا في ظل مخاطبته لي بلغته التي لا أفهمها.

لا بأس .. سأنقل لهذا المسكين خبراتي في مهارات الاتصال بين الناس والتي اكتسبتها ممن هم حولي - جزاهم الله عني خيرا - وأبين له وأشرح أهمية أن تتحدث ألسنتنا نفس اللغة لنفهم بعض ويتحقق التواصل ..
  • أنا : عربي .. تتكلم عربي ؟؟؟
  • الرجل التركي : نو نو نو أربي
  • أنا : إنجليش ؟
  • الرجل التركي : نو إنجليش نو .. توركيش ؟؟
  • أنا : نو توركيش
  • الرجل التركي : جيرمان ؟؟ دوتش ؟؟
  • أنا : نو نو
ورغم علامات الأسف على وجهي التي ولابد أن تفقده الأمل في التواصل معي إلا أنه استمر في الحديث وكأن شيئاً لم أقل .. اضطررت أن أجاريه في حماسه منتظراً أن يدرك حقيقة أن شخصين لا يتحدثان نفس اللغة لا يمكن لهما أن يتواصلا ثم ينصرف، لكنه استمر في محاولة الحديث معي واستمر في الإشارة واستمر في محاولة إفهامي .. استمر واستمر واستمر .. وأخيرا انتهى من كلامه ثم سلم علي مبتسما وانصرف.

بعد انصرافه وجدت صديقا لي يتابعنا من بعيد ويلتقط لنا الصور، ابتدرني قائلاً : كل دا كلام مع الراجل انتوا بقالكوا كتير أوي واقفين لدرجة إني تعبت من الوقفة في انتظاركم تخلصوا.

تعجبت جدا من إمكانية حدوث هذا، فبالإضافة إلى أن الوقت مر علي سريعاً ولم اشعر به فإن المنطق يقول أنه حيث لا لسان واحد فلا يمكن أن يكون هناك فهم أو تواصل وبالتالي فاللقاء لا يمكن أن يكون دام أكثر من لحظات .. لابد أن صاحبي يتوهم، أجبته وأنا أراجع ما فهمته من الرجل التركي: أبدا يا سيدي .. دا واحد تركي لا افهم لغته كان يعرفني بنفسه فهو تركي الأصل يعيش في ألمانيا منذ 35 سنة ويعمل في شركة فولكس فاجن وعلم أني من مصر فقال أنه لم يسبق له زيارة مصر لكن أولاده زاروا مصر والأهرامات وهو يتمنى أن يزورها قريبا وأخبرني أنه يحب جدا كتابات الشيخ محمد الفزالي رحمه الله. وحدثني عن مكة والمدينة فقال أن مكة والمدينة هما مركز الكون وعلامة ذلك توافد هذا العدد الكبير من الجنسيات المختلفة إليهما وفي مكة والمدينة يتساوى كل الناس .. الرئيس والغفير الكل سواسية .. ثم حدثني عن التفوق الإسلامي لو احسن استغلاله وأشار إلى أن المهندسين الأتراك انجزوا العديد من المشروعات في الحرمين الشريفين، وتحدث عن التاريخ قليلا فقال أن السلطان عبد الحميد كان يحب الإسلام وكان يريد قيام مشروعات كببيرة تربط أجزاء دولة الخلافة ببعضها مثل خط السكة الحديد الذي كان يعتزم انشاؤه ليربط بين اسطانبول والمدينة ولذلك اسقطه الغرب ومن التاريخ انتقل ليتكلم عن بلده والسياسة فقال أن يحب أردوغان لأنه رجل طيب جعل للأتراك مكانة وكلمة في العالم .. في أمريكا وفي انجلترا وألغي التأشيرة مع كثير من البلاد ويحاول تكرار مشروع السلطان عبد الحميد بعمل خط سكة حديد بين تركيا والحجاز عبر آسيا الوسطى.

ابتسم صديقي وقال : كل دا وما تعرفوش لغة بعض ، أمال لو بتعرفوا لغة بعض كنتوا قلتوا ايه تاني ؟

أسقط في يدي وأدركت أخيراً ما حدث، وتعجبت فعلا من بلاغة هذا الرجل التركي الذي لا يقف عند حدود اللغة إذا أراد ورغب في التواصل مع الأخرين، وتعلمت منه ثقافة الحوار الحقيقية وأنه لو أراد المتحاوران فعلا أن يفهم كل منهما الآخر وأن يتواصلا فيما بينهما فإنه لن يحول بينهما حائل .. تعلمت منه أن السمع وما يتبعه من فهم لا يكون بالأذن وحدها ولا باللسان وحده ولا بحفظ واستذكار ما يقوله الآخر وإنما هو حالة تشمل كل الحواس تحمل الرغبة في فهم الآخر والحرص على إفهامه، وأن أوهام عجز الأخرين عن الفهم إنما هي في الحقيقة تعبير عن عجزنا نحن عن إفهامهم .. تعلمت منه أن حوارنا باللغة الواحدة لا يعني بالضرورة أننا نسمع بعض وأن التواصل إرادة إذا فقدت فلن يغني عنها شيء.


No comments: