Wednesday, January 11, 2012

موقفنا من الآخر



[من كتاب مغالطات - لمحمد قطب]

من القضايا التي يثيرها العلمانيون كثيرا قضية "الآخر" الذي يخالفنا في الرأي، وضرورة الاعتراف له بشرعية الوجود، وحرية التعبير عما يريد، وبالأسلوب الذي يراه مناسبا للتعبير عما يريد.

ولن نسأل العلمانيين هنا عن موقفهم هم من "الآخر" الذي يخالفهم في الرأي، حين يكون هذا الآخر إسلاميا – أصولياً كما يسمونه - كم ينددون بوجوده، وكم يدعون إلى استئصاله، ويستعدون قوى العالم ضده، ويسكتون السكوت المخزي عما يلقاه في سجون الطغاة ومعتقلاتهم من صنوف التعذيب الوحشي، وأقصى ما يصفونها به – إن اضطروا إلى ذلك - أنها "تجاوزات" كان يحسن ألا تقع!

لن نسأل عن ذلك، لأننا نريد أن نبحث القضية بحثا موضوعيا هادئا بلا انفعال.

فمن هو "الآخر" الذي يريدون له شرعية الوجود، وحرية التعبير عما يريد؟ وهل هو نبتة محلية، نبتت تلقائيا من ظروفنا وبيئتنا؟ أم هو نبتة "مستوردة" جيء بها من بيئة أخرى، ومن ظروف غير ظروفنا ؟

.....

اليوم يعتقد العلمانيون في العالم الإسلامي أنهم يمثلون دور ذلك "المفكر الحر" الذي يخرج أمته من الظلمات إلى النور.. ودور ذلك "الآخر" الذي ينبغي الاعتراف له بشرعية الوجود، وهنا الوهم الكبير الذي يقع فيه العلمانيون.

ونحن – من أجل البحث - نفترض فيهم الإخلاص الكامل وتوفر حسن النية، ولكن الإخلاص وحسن النية شيء، واستقامة الفكر شيء آخر، ولا علاقة بينهما! فقد يوجدان معا، وقد يوجد أي منهما دون الآخر!

ونبدأ فنقول: إن "الآخر" الذي يخالفنا في الرأي في إطار الإسلام، لا تحريج عليه في الواقع التاريخي للأمة الإسلامية، وإلا فكيف وجدت المذاهب المختلفة؟ وكيف اختلف الفقهاء فيما بينهم؟ وكيف صار للخلاف قواعد تدرس لطلاب العلم؟ وكيف قال من قال من علمائنا: قولنا صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب، وتك قمة النزاهة العلمية وموضوعية البحث، إذ يعتقد العالم أنه على صواب ولكنه لا يصادر احتمال الخطأ، ويعتقد أن غيره مخطئ ومع ذلك يعطيه احتمال الصواب!

ومن ثم لا يكون "للآخر" شكوى، ولا تكون له قضية يثيرها في المجتمع المسلم. وذلك منشؤه أنه لا توجد في دين الله كنيسة ولا رجال دين، فلا يوجد من ثم من يحتكر الصواب وحده. ويؤمن المسلم أن الكمال لله وحده، والعصمة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وكل إنسان يستطيع أن يظن في دخيلة نفسه أنه على صواب، ولكنه حين يحاجج الآخرين مطالب بإبراز الدليل، ولا قيمة لدعواه إن لم يقم عليها الدليل.. والواقع التاريخي للأمة الإسلامية هو مصداق هذه الحقائق جميعا، وقد وقع الاختلاف في الرأي منذ وفاة الرسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة سواء في حادث السقيفة أو في محاربة المرتدين أو غيرهما من المواقف، ولم ينكر المسلمون على بعضهم البعض مبدأ الاختلاف. وإن اشتد النقاش بينهم في أمور. وما كانت الشورى لتكون قاعدة أساسية من قواعد المجتمع المسلم ينص عليها القرآن نصا لو أن الخلاف في الرأي كان غير جائز! وإلا فما مجال الشورى إذا كان الرأي تفرضه جهة معينة فيلتزم به الجميع؟!

نعم.. ولكن!

إن العلمانيين لا تعنيهم هذه الحقائق كلها ولا تشبع تطلعاتهم، إنهم يطالبون بشرعية الوجود لمن يحمل اسما مسلماً ويريد أن يكون فكره أو سلوكه خارج إطار الإسلام (وإن ادعى غير ذلك!) فلا يسأل عما يفعل، ولا تصادر حريته، ويقول ما شاء له هواه أن يقول، ويفعل ما شاء له هواه أن يفعل دون تحريج، لأنه هكذا صار الأمر في أوربا حين خرجت من قرونها الوسطى المظلمة..

....

فمنذا الذي يزعم أنه أحكم من الله، وأعلم من الله، وأقدر على معرفة الحقائق من الله، حتى يكون من حقه أن يضع كلام الله على ميزانه، فيقر منه ما يقر، ويعترض منه على ما يشاء؟!

....

قد يزعم العلماني أنه لا ينقض كلام الله، إنما ينقض فهم الآخرين لكلام الله .....
وفي هذا القول مغالطات كثيرة، فمهما اختلفت العقول –السوية- ففي إطار معين، تحدده اللغة ذاتها. وإلا فلو أن من حق كل إنسان أن يفهم من اللغة ما شاء على هواه، فكيف تصبح اللغة أداة تفاهم بين الخلق، وأداة اتصال اجتماعي وفكري؟! وكيف تؤدي مهمتها في حياة البشر؟!

....

ولا نقول مع ذلك إن "الآخر" ليس له دور يؤديه في واقعنا المعاصر! بل نقول على العكس إن له دورا هائلا عليه أن يؤديه!

إن المجتمع الإسلامي في واقعه المعاصر مليء بالانحرافات والأمراض والآفات. وإن الأمة في واقعها المعاصر قد بعدت بعدا شاسعا عن الصورة التي أرادها لها الله وأخرجها من أجلها:

{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ }[آل عمران:110].

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة:143].

وهي في حاجة لمن يذكرها: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].

وفي حاجة لمن يردها عن انحرافاتها ويعيدها إلى الطريق: { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران:104].

في هذه النقطة لا خلاف بيننا وبين العلمانيين.

فنحن جميعا متفقون على وجود الأمراض في المجتمع الإسلامي، ومتفقون جميعا على ضرورة علاج هذه الأمراض إذا أريد لهذه الأمة أن تنزع عنها تخلفها، وتعود إلى الحياة من جديد. ولكن موضع الخلاف هو في تشخيص المرض ووصف العلاج. فهم يرون أن السبب فيما أصاب الأمة من الأمراض هو الدين، وأن العلاج –على الطريقة الأوربية- هو نبذ الدين أو تحجيمه كما فعلت أوربا لتخرج من قرونها الوسطى المظلمة.

ونحن نرى أن السبب فيما أصاب الأمة من الأمراض هو الانحراف عن الدين، وأن العلاج –على الطريقة الإسلامية- هو العودة الصحيحة إلى دين الله القويم، الذي أنزله الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، بدءاً بتعريف الناس ما جهلوه من حقائق الدين، وانتهاء بتربية الأمة على مقتضيات هذا الدين، لتعود كما أرادها الله: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }.


2 comments:

Dr Ibrahim said...

ممتازة جزاكم الله كل خير

ma 3lina said...

Dr Ibrahim
جزانا الله واياكم
وشكرا على المرور والتعليق