Monday, April 09, 2012

من أخبار الزير سالم



واسمه عدي بن ربيعة بن الحارث بن مرة التغلبي الوائلي، المعروف بالمهلهل أبي ليلى والمشهور بالزير سالم.

( قال الراوي ) ولما أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، أمر الزير قومه بالاستعداد للحرب فركب ظهر الجواد، وتبعته الفرسان والقواد، وقصدوا بني مرة بقلوب قوية وهمم علية، فالتقاهم جساس مع أخوته وأهله، واشتبك بينهم القتال وعظمت الأهوال، وابتلت بني مرة بالبلاء والويل وكان الزير يحصد فيهم بالنهار والليل، واستمر القتال بين الفريقين مدة سنتين حتى فقد من بني مرة في هذا الحرب الأخير نحو اثني عشر ألف أمير عدا السادات والأكابر والجيوش والعساكر، وكان الزير يأمر قومه بقطع الرؤوس ووضعها في المخازن لأنه كان قد أقسم بالله العظيم أن سيملي البيوت من جماجمهم وباقي الاماكن.

فلما طال المطال واشتدت على بكر الأهوال، اجتمعت أكابر الناس مع الأمير جساس، وأخذوا يتفوضون كيف يتخلصون، لأن الزير لا يقبل منهم فدى، وجميع وسائطهم التي استعملوها في توقيف الحرب راحت سدى، فقال سلطان لأخيه جساس: أعلم يا أخي بأن الزير في كل صباح يمر على قبر أخيه فيجيبه بالسلام ويقول له قد قتلت في ثأرك فلان وفلان فهل اكتفيت أم لا ؟ فلا يجيبه أحد. فالرأي عندي أن انتخبوا رجلاً وتضعوه داخل القبة بحيث لا يراه أحد، فإذا مر الزير على القبر حسب عادته، وسأل أخاه ذلك السؤال فيجيبه الرجل بصوت خفيف من قلب ضعيف لقد اكتفيت يا أخي، فاغمد سيفك من هذا اليوم عن قتال القوم، واياك أذية البشر، فإن ذلك مما يجلب علي الضرر فإذا سمع هذا المقال فلربما ينطلي عليه المحال فيكف عن الحرب والقتال فنستريح من القيل والقال فاستصوب جساس وباقي الاعيان رأي الامير سلطان.

( قال الراوي ) وكان في القبيله رجل فقير الحال عديم الأشغال، فاستدعاه جساس إليه وقص ذلك الكلام عليه، فقال له: إذا بلغنا الأرب ولكن الطريقة خطرة قبيحة. فأخذ جساس يحثه بالكلام ويرغبه في هذا بالشعر والنظام.

( قال الراوي ) فلما فرغ جساس من هذا المقال قال له عديم الاشغال: على الرأس والعين، ولما كان الليل حفروا سرداباً وصلوه الى القبر وادخلوا ذلك الرجل فيه، ولما كان الصباح ركب الزير ظهر الحصان وتبعه الأبطال والفرسان ومر على قبر أخيه حسب عادته ونادى بصوت عال: نعمت صباحاً يا أخي كليب فقد قتلت في ثأرك نهاراً أمس خمسة آلاف نفس، أيكفي ما قتلت منهم أو أرجع أفنيهم عن بكرة أبيهم ؟ فأجابه ذلك الرجل من القبر بصوت خفيف: وأنت أنعمت صباحاً يا أخي الحنون، يا ساقي الضد كأس المنون، كف الحرب فقد اكتفيت، وإن قاتلتهم بعد اليوم تكون قد تعديت وبغيت، فتزيدني ضرراً وغماً وكدراً فإن نفسي قد بلغت مناها ونالت مشتهاها فكثرت خيراتك وزادت في الدنيا مسراتك .

( قال الراوي ) فلما سمع الزير هذا الكلام زالت أتراحه وزاد فرحه وانشراحه وقال: سبحان الرحمن الرحيم، الذي يحي العظام وهي رميم، أنت يا أخي بخير ونحن بعدك نقاسي الضنك والضير، ثم نزل عن ظهر الحصان ودخل إلى القبر وهو فرحان وقال: إذا كنت بخير يا أبا اليمامة فما هي هذه السكتة والإقامة بعد العز والكرامة، فقم إلى عند بناتك فإنهن في حزن وكدر. ثم تقدم اليه وتأمل فيه بالنظر فرآه أنه ذلك الرجل المعهود، فغاب المهلهل من الوجود، فجذبه من لحيته وأخرجه من السرداب، وقال له: اصدقني بالخطاب، فمن أنت ؟ ومن تكون ؟ قبل أن تشرب كأس المنون، فأعلمه بواقعة الحال، وحقيقة الأعمال، فسل السيف ليقتله، وقد أغاظه فعله، فقال: أنا بجيرة كليب أخيك، فلا كان من يعاديك، وقد جرني جهلي من قلة عقلي حتى جرى ما جرى يا فخر الورى .

فلما سمع الزير كلامه أبدى ابتسامة، فصفح عنه وأعطاه جواداً من أطايب خيل العرب، وألف دينار من الذهب.

No comments: