Thursday, November 01, 2012

ما هذا برأي


لا تعجب إذا سمعت أحدهم يجحد حق الله في أن يكون كلامه فوق كل أوراقنا ودساتيرنا، ولا تعجب إذا سمعتنا نختلف على حدود سلطان الله وحكمه على عبيده التي سنكتبها في مادة قانونية في أحد أوراقنا الهزلية التي يتخذها سلطان وتهاني سيفاً يحاربون به مخالفيهم، ويركبها المحامون ليل نهار للعكننة على المخاليق أو للشهرة، لا تعجب فنحن نمارس الجحود في كل شيء مع الآخرين ليل نهار، فلا عجب أبداً أن يصل الجحود ببعضنا لأن يجحد حق الإله في أن تكون كلماته وكلمات رسوله هي أعلى وثيقة مكتوبة، وكل ما عداها يستمد سلطانها منها لا العكس.

أكرر أن معظمنا يمارس الجحود مع الآخرين في كل وقت وفي أصغر الأشياء قبل أكبرها، مشاهدة أكثرنا تكشفنا ونحن نضع أنفسنا في منزلة أعلى من غيرنا، نختال عليهم بلا شيء عندنا سوى القدرة على التحطيم، وكأننا بإنكارنا أفضال الناس نرضي شيئا ما غامض في نفوسنا، نبرر جحودنا أحياناً بأنها الموضوعية، أو ضرورة العمل وتغليب المصلحة، أو الصدوع بالحق أو الكرامة ... إلخ، ثم نقف على مسافة نتشفى في ضحايانا ونراقبهم وهم يترنحون أمامنا بعد أن أعملنا فيهم سهام اليأس والإحباط.

كم مدير في عمل سمعتم عنه، يتلقى اقتراحات مرؤوسيه بسعادة حقيقية ؟ ثم يتبع ذلك منه سعياً جاداً لتنفيذ هذه الاقتراحات دون أن يطمس حق صاحبها، وكم مدير في عمل رأي في عمل أحد مرؤوسيه إنجازاً عظيماً يستحق أن يكافئ عليه مادياً أو معنوياً .. اذكر في عمل سابق لي لما قرر العميل أن يقيم للعاملين في الشركة حفل بسيط احتفالاً وتعبيراً عن شكره لسهرنا وإقامتنا شبه الكاملة في الشركة حتى إتمام العمل، وآثناء الحفل تقدم مدير الشركة المسؤل ليؤكد أننا تراخينا وأنه كان يمكن للعمل أن يتم في أقل من هذه المدة، ليقتنع صاحب العمل ويحيل الحفل حسرة، والاحتفال جنازة.

هذا المدير ليس شريراً ولا يرى نفسه مريضاً نفسياً، وإنما يرى أن كلماته هذه ضرورة تفرضها عليه طبيعة عمله - رغم عدم وجوده في أي مرحلة من مراحل العمل - وربما قد يرى أن كلماته إظهاراً لانضباط الشركة بإدارته الحازمة أمام العميل، أو ضغطاً في محله يحتاجه العمل لضبط سلوك العاملين، أو غير ذلك كثير من المبررات التي تجعله هانئ البال قرير العين راضياً عن نفسه، بل وربما تجعله يحتسب الأجر والثواب عند الله على كلماته الجاحدة.

في الحياة الزوجية مثل ذلك، لا تجد أحد الزوجين يعترف للآخر بفضل ولا يذكر له تضحية، بل على العكس هو يرجع كل تضحية إلى ضرورة وكل فضل إلى نقيصة، فمعاناتي من أجل توفير لقمة العيش والحياة الكريمة ضرورة تفرضها الحياة، وكذلك معاناتي في تربية الأبناء ضرورة أيضاً، وأما سكوتك على اتهاماتي فليس امتصاصاً لغضبي وإنما لأن ليس لديك دفاع وجيه وتعترف بكل ادعاءاتي، وكذلك توددك لي دون مناسبة لاشك أنه يخفي جرماً مشهوداً ومصيبة سودة عملتها يا منيل ... وهكذا

هذا هو كفران العشير الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه من عادة النساء فقال " أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء ، يكفرن ". قيل : أيكفرن بالله ؟ قال: " يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خير قط " ، هذا هو الجحود وكفران العشير الذي امتد وصار متبادلاً بين الرجال والنساء، وكأننا بجحودنا نتملص من آداء الحقوق تجاه شريك حياتنا برفض الاعتراف بفضله، مع أن الموضوع أبسط من ذلك فالكلمة الطيبة صدقة وتديم المحبة والعشرة بالمعروف.

جلست في عدة جلسات متنوعة ومتعددة المهام لتبادل الأفكار بين أفرادها، كانت كل جلسة أشبه بجلسات قريش في دار الندوة، فكل واحد من المجموعة يطرح فكرة ما ويذكر مميزاتها، فيخرج أحد الأفراد معترضاً ، قائلاً الجملة الشهيرة : " ما هذا برأي " ويبدأ في سرد مساوئ رأي صاحبه لتتحطم الفكرة على صخور كلماته، ثم يبدأ آخر في ذكر فكرة جديدة بمحاسنه ومزاياها بعد اهمال الجميع للفكرة الأولى، فيخرج آخر ليعترض مجدداً وهو يكرر: " ما هذا برأي " .. وهكذا إلى مالا نهاية.

مثل هذه الجلسات لا تنتهي أبداً بشيء عملي مفيد يمكن تنفيذه، ولذلك لا أعجب إذ احتاج إبليس أن ينزل بنفسه إلى دار الندوة ليحسم لكفار قريش أمر قتل النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لو تركهم لإدارتهم البائسة للجلسة ما انتهوا إلى قرار أبداً.

نحن نتعامل هكذا، إما أن أكون صاحب الفكرة أو اجحد آراء الآخرين وتصوراتهم وآراءهم .. أو بمعنى آخر: فيها لاخفيها. مع أننا نتمتم كثيراً متحسرين على حالنا أن الغربيين ينجح عندهم أصحاب الأفكار الفاشلة لأنهم يساعدونهم المرة تلو الأخرى حتى تنجح أفكارهم بينما نحن نضع العراقيل أمام الأفكار الناجحة حتى تفشل. ومع علمنا بهذه الحقيقة فلا نكف عن ممارسة جحد الآخرين وأفكارهم وأحلامهم.

لماذا لا نستطيع أن نكمل أفكار بعض حتى نصل بها إلى التمام، لماذا لا أشارك في عملك وإن اختلفت معك في بعض تفاصيل عملك، وحتى وأنا أرى أهمية هذه التفاصيل المختلف عليها، لكن لعلمي بصالح نواياك وخفضي لجناحي للمؤمنين، وعدم رؤية عبقرية ذاتي وتفوقي الفكري عليك، ولظني أن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب، فإني - لذلك كله - أشارك في عملك وسعيك واتحمل معك النتائج احتسابا وامتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتطاوع بين المؤمنين كما قال لأبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل: " تطاوعاً ولا تختلفا ".

لماذا تتحول ملاحظاتنا لأوجه القصور في أعمال الأخرين إلى اختلافات منهجية وفكرية وعقدية لا يستقيم معها – بزعمنا – مشاركتنا في إنجاح أعمالهم، لما لا يعقب رؤيتي للعيوب مرحلة المعالجة إن أمكن وطرح الحلول حتى تكتمل الفكرة ولا تفشل. فإن استطعت وإلا فلعل الله يصلح بالصدق القصور ويجبر بالمحبة الكسور، لماذا اتعامل بمنطق كل الأفكار لا تصلح إلا فكرتي، وكل الأعمال فاشلة إلا عملي، وكل إنجاز هو خيال ما دام غير قائم على مباركتي، وكل تضحية هي وهم إلا تضحياتي.

ما نفعله مع الآخرين هو عين الجحود الذي يجعلك تزدري الناس وتبطر الحق وهو شقيق العند الذي يورث الكفر، وكلاهما ابنا الكبر الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر "، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة. ، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس ". أو " ولكن الكبر من سفه الحق وازدرى الناس ".

No comments: