Friday, February 24, 2012

نظرية الما وراء - شكلك فاهم يا نصة



مين اللي قال إن نظام التعليم في عهد مبارك كان سيء ويعتمد على التلقين ويقتل القدرة على التخيل والرغبة في التفكير ؟ ومين كمان اللي قال إن البيئة الثقافية اللي أفرزها نظام حكمه غير قادرة على إنتاج أفراد قادرين على التحليل خارج الصندوق واستيعاب ما يجري والخروج من الأطر التقليدية لتفسير الأحداث ؟!!
أمال كل الناس في اللك شو والفيسبوكية والنتيتة أو حتى اللي في الشارع دول إزاي وصلوا لهذا المستوى اللامع من التفكير حتى فيما لا يحتاج لتفكير، وإزاي بلغوا تلك القدرة على استيعاب ما يجري وما لا يجري والدخول إلى أعمق الجزئيات وأكثرها إظلاماً للعثور على الخبايا وما يحتمله الحدث ومالا يحتمله بما يعجز عنه الكثير غيرهم ؟؟

أنظر إلى أي مهنة فأجد أصحابها إذا تكرر فشلهم فيها عوقبوا وأبعدوا عن هذه المهنة، الطبيب إذا أخطأ في حق مريضه والمهندس إذا تسبب في انهيار مبنى أو توقف ماكينة، والمحامي إذا خسر قضاياه ... إلخ، إلا التحليل السياسي والتعليق على الأحداث فخطأ صاحبه لا يمنعه من أن يكرر المحاولات مرات عديدة بدون أي تأني ولا ذرة خجل، بل خطأه يدعوه لأن يستمر أكثر وأكثر في تحليل الأحداث والسعى لزيادة مساحة انتشار تعليقاته وتحليلاته ويدعو أصدقاؤه ومحبيه إلى مزيد من التمسك بأرائه الألمعية وتحليلاته اللوذعية والدفاع عنها.

ولا أعجب من دخول بعض لاعبي الكرة ومقدمي البرامج الرياضية والفنانين لعالم التحليل السياسي، فأصل عملهم هو تحليل مبارة مدتها 90 دقيقة في ساعات طويلة بل وأحياناً أيام، والحديث عنها وعن تفاصيلها وجزئياتها ونوايا اللاعبين والمدربين فيها، ويجعلون لكل تمريرة كرة أكثر من سيناريو ويعيدون ويزيدون في توضيحها مراراً وتكراراً بالتصوير البطيئ ومن كل الزوايا حتى يصلوا بك إلى الشك في كفاءة اللاعب ةالمدرب ونوايا مخرج المباراة والحكم، فإذا كان هذا فعلهم في الكرة فهو لا يختلف مع فعل المحللين السياسيين الآخرين.

وفي وسط هذا الكم من المتعلمين المثقفين المتنورين القادرين على تحليل ما يحدث وما لا يحدث وتقييم المواقف واستيعاب التطورات وتخيل ما وراءها، أجد أمثالي موسومين بالفكر السطحي لعجزهم عن مجرد مجاراة هذا السيل من الأفكار الماورائية والفهم المابعدي والإدراك لخفايا وخبايا كل تفصيل صغير يحدث من حولنا على الساحة، فأمثالي من البصمجية يجتهدون لمجرد فهم تفسير أولئك الأفذاذ فيعجزوا، فضلاً طبعاً عن وضع تصور أو حتى فهم للأحداث الأصلية. لهذا استسلم تماماً - واستسلم معي - لأيا من كان يحاول اقناعك برؤيته النافذة الثاقبة التي لا ادركها ولا استطيع أنا الحزين قصير النظر.

وبفضل علم إخواني وسعة إطلاعهم أصبحت قطرة الماء التي تنزل من السماء مؤامرة صهيوأمريكية، والنبتة التي تخرج من الأرض تدبير واستدراج ماسوني يدعم من فلول النظام البائد، وخناقة بتاع الكبدة اللي على أول الشارع مع عم موسى بتاع الفراخ دلالة على تواطئ المجلس العسكري مع الإخوان.

تجد مثلاً أن حدثاً مثل دعوة أحد نواب مجلس الشعب لغلق المواقع الإباحية، رغم أنها دعوة قديمة ولم يأت الرجل بجديد، ويفسرها أمثالي من السطحيين على أنها دعوة جيدة لا يختلف عليها اثنان وخطوة محمودة لزيادة البركة، والاجتهاد في منع المنكرات وحماية الشباب، إلا أن أخي الفاهم الواعي المثقف الحويط يبين لي لؤم ما تنضوي عليه هذه الدعوة من تغييب للمجتمع وصرف انتباهه عن أهم قضاياه وأخطر مراحل انتقاله، وتفتيت للهمم في قضايا فرعية جزئية. ولأني لا أفهم العلاقة بين ما يقول أخي ودعوة البرلماني .. ولثقتي المطلقة في أخي الفاهم الواعي فإني أسكت وأقر له، وأقول لنفسي أكيد انا اللي مش فاهم و"أكيد الناس دي فاهمة".

كذلك فإطلاق مجموعة من الظباط للحاهم طلبا للحرية من قيود نظام مبارك التي فرضها على الداخلية والقضاء والجيش والإعلام، واحياءاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في مجتمع كاد ينسى سنته، يبين لي صديقي الخبير واسع الإطلاع محلل المعلومة وهي لازالت في بطن الحوت، أن في هذا مخططاً واضحاً من الداخلية لإظهار أن بالداخلية أفرادا شرفاء متدينون يدافعون عن الحقوق وعن الدين وعن الإسلام لتهدأ ثورة الشعب على الداخلية. ولأني لا أفهم من أين جاء بهذا التخمين والظن والتحليل، ولثقتي في مصادره وموارده أقول لنفسي أكيد انا اللي مش فاهم و"أكيد الناس دي فاهمة"

وبالمثل دعوة عمل صندوق للاستغناء عن المعونات الخارجية - أمريكية وغيرها - وتنشيط الاقتصاد المصري، ودعم المنتجات المصرية - هكذا أعلن المبادرون لهذه الفكرة عن فكرتهم -.
لكن أين يذهب هؤلاء من أخوتي العالمين العارفين، فقد أدركوا فورا ما وراء هذه الدعوة من تجميل للمجلس العسكري وإظهار معارضته وتمرده على الضغط الأمريكي ليحظى بالتأييد الشعبي الذي يكفل له الاستمرار في الحكم، كما أن العز بن عبد السلام - رحمه الله - منع قطز من جمع الضرائب من الرعية حتى يبيع المماليك واستدلوا بذلك على ضرورة عودة الأموال المنهوبة قبل جمع الأموال من بائعات الفجل والجرير الغلابة ، وأن من يقول عكس ذلك ما هو إلا من أنصاف المتعلمين الجهال المضحوك عليهم بالعاطفة.
ورغم أني أرى في الاستدلال ب "حدوتة العز" منهج من يبحث لرأيه عن دليل، وليس من يبحث عن رأيه من الدليل، ورغم أن الصندوق يختلف عن ضرائب قطز، ورغم أنه كثيرا خرجت هذه الدعوات في مصر من أيام مستشفى السرطان وفك الحصار على غزة وانقاذ الصومال وليبيا ولم يعتبرها أحد تجميل لمبارك ولا العسكري، لكن ما المانع أن يكونوا فاهمين وأنا اللي مش فاهم "أكيد الناس دي فاهمة".

وعلى نفس الخط، فإن مقابلة الكتاتني لوفد اللجنة الخارجية من مجلس النواب العراقي قد يبدو لأمثالي عملاً عاديا إجرائيا لا يحتمل أي عمل تخريبي أو سعي إفسادي، لكن أخي الذي شيّر صورة الكتاتني وهو يصافح رئيس الوفد - الذي صادف كونه شيعيا - اعتبر أن في ذلك تواطأ بين الأخوان المسلمين والشيعة لضرب سوريا، وأن في هذه المصافحة "رسالة واضحة" ل "من يهمه الأمر ". ولأني لا اعرف مضمون هذه الرسالة الواضحة، ومن هو الذي يهمه الأمر، فاعتبرت اني قاصر عن إدراك ما يدركه هؤلاء العباقرة فقلت لنفسي "أكيد الناس دي فاهمة".

ولما سمعت أن المجلس العسكري أصدر مرسوم قانون للاستثمار - قانون 4 لسنة 2012 - قبل انعقاد مجلس الشعب وكان مما جاء فيه أنه يجوز المصالحة في قضايا المال العام حال رد الأموال، اعتبرت أن هذا عملا لا بأس فيه ألا كون الاموال تعود بقيمتها وقت ارتكاب الجريمة، وفي هذا نقطة كلام وحوار، لكن إجمالاً فالقانون يرغّب في عودة أموال الشعب المنهوبه، اعتبار أن في هذا أصلح للبلاد من مجرد حبس لصوصها خاصة أنهم سيسجنون لجرائم أخرى لو انتبهنا، وفي كل حال فإن مجلس الشعب ولجنته التشريعية برئاسة المستشار الخضيري أعلنت أنها ستعيد النظر في جميع قوانين المحلس العسكري في أسرع وفت، لكن وكالعادة يغيب عني ما يدركه أهل الاجتهاد عباقرة الزمان حجة الله على العباد من أن هذا المرسوم هو مؤامرة على الشعب، مؤامرة عجز نظام مبارك بكل ظلمه أن ينفذه حتى جاء المجلس العسكري لينفذه، مؤامرة أضاعت على المصريين 800000000000 جنيه - 800 مليار جنيه - ولأن أخي الفاهم ختم كلامه بعبارة فيما معناها لينم الجبناء العملاء الخونة في العسل، ولخوفي أن أكون منهم ورغم عدم فهمي للرقم المذكور وجميع الارقام الورقية الحسابية التي تعتمد على فروق أسعار بين زمن وزمن فقد التزمت الصمت ورضيت بالتسليم لسعة علم وفهم أخوتي وقلت لنفسي "أكيد الناس دي فاهمة".

أذكر أني يوما هنا على هذه المدونة وتعليقاً على موضوع عن الجيش المصري عند أحد المدونين صرحت برفضي ما يفعل خشية ان يكون عمله فاتحة للجواسيس لتلقي أخبار المعلقين على البوست واضافاتهم حول الجيش المصري، فنصحني أخوة كرام كثير أن لا أحول ظنوني لوجهات نظر وأن احتفظ بظنوني في خانة الظنون دون الهجوم، وقد فعلت. إلا أني اليوم أجد أن نظرية الما وراء تطغى على الجميع وأصبحت منهج ثابت لا يحيد عنه إلا من هو جاهل.

البعض سيعتقد أن التخلي عن نظرية الما وراء هو دعوة للانجرار وراء نظرية تسطيح الأمور وهذا أبعد ما يكون عن ما اقصده، فما أعنيه هو أن الاشتغال بأفعال الغير يمنعنا من إحراز أي تقدم، وأن التفرغ للتعليق على الاحداث يعيق قدرتنا على صنع الأحداث، والاشتغال بالرأي والرد عليه تضيع للاوقات واستنفاذ للجهود وإيغار للصدور، والاعتراض على صنع الأخرين لا يكفي إلا إن رافقه عمل تصحيحي لصنعهم، وغير ذلك يصح وصفه في عالم السياسة بالسفسطة والديماجوجية.

ملحق
السفسطة هي قياس مركب من الوهميات الغرض منه إفحام الخصم أو إسكاته والسفسطائيون ينكرون الحسيات والبديهيات وغيرها مما اقره المنطق أو قبلته أحوال المجتمع السليم. ولسفسطة في المعجم الوسيط تعني من أتى بالحكمة المموّهة. والسفسطة هي أيضا التلاعب بالالفاظ لطمس الحقائق والاجابة على السؤال بسؤال.

الديماجوجية هو طريقة في السياسة يستغل صاحبها أحداث جارية ويستخدم أساليب استثارة عواطف الجماهير ويتملق طموحاتهم ويمس مشاعرهم عن طريق الخطابات الرنانة والدعاية الحماسية والتفنن في الكلام في مواضيع الرأي العام ذات الشعبية الجماهيرية، اعتماداً على رؤيته سذاجة مستمعيه واندفاعهم وراء عاطفيتهم الجياشة غير المنضبطة.

No comments: