Wednesday, May 23, 2012

الكائن سفاف الفول


أنجى الله تعالى بني إسرائيل من نظام الفرعون المصري الذي أذاقهم صنوف العذاب والفقر والضنك، وأبدل الله تعالى لهم حياة الذلة والمسكنة بفرصة لحياة أخرى كريمة، وبطعام الفقر والضنك طعام المن والسلوى {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى}، ولكن لم تمر فترة طويلة حتى سمعنا عن أقوام منهم تساوى لديهم حياة القهر في ظل الطاغية وحياة الحرية التي أنعم الله بها عليهم، فقالوا {أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا} وأقوام آخرين حنوا لأيام الضنك وطالبوا بعودة حياة الفقر التي اعتادوها على يد فرعون {لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنيت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، قال أتستبدلون الذي هو أدني بالذي هو خير، اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وبائوا بغضب من الله}.

الكائن سفاف الفول هو كائن لا يستطيع أن يعيش بدون طبق الفول وفحل البصل وشوية العدس، هو كائن فقْري – بتسكين القاف - مهما حاولت تقنعه بعظيم نعم الله عليه لاسيما العقل والرؤية، يظل اقتناعه الراسخ الذي لا يتزحزح أن أعظم نعم الله عليه هو طبق الفول اللي معاه شوية توم.

هذا الكائن الذي حير علماء الأنثربولوجي وباحثي علم النفس والاجتماع، ينتمي لفصيلة الكنبيات ويختلف كلية عن الإنسان الذي يأكل العدس والبصل، ويختلف قطعاً عن الحمار الذي يحش البرسيم والفول، فهذه الكائنات الطبيعية مخدومة تتخذ من البقوليات طعاماً لها، بينما الكائن سفاف الفول يختلف عنها تماماً، فهو يرتبط بعلاقة غريبة وغير مفهومة ولا واضحة مع الفول والعدس والبصل والثوم، فصار لها عبداً وخادماً لا مخدوماً.

الكائن سفاف الفول كائن له هيئة تشبه الإنسان من الخارج، حيث يحيط به جلد ثخين لزج يشبه الأسفنج يساعده على امتصاص أي قاذورات عابرة، ولكنه أجوف تماماً من الداخل حيث يختلف تركيبه الفسيولوجي، فرأسه تتكون من أوعية – جرادل - مختلفة الأحجام تتسع لأي شيء يمتصه الجلد والعين والأذن مهما كان اتساعه أو اتساخه، ولا يوجد أي نوع من أنوع الفلترة أو التنقية أو التمييز لما يعبر إلى هذه الأوعية.

يعتبر اللسان هو العضو الأكثر عملاً في الكائن سفاف الفول، ويقوم بنقل القاذورات الممتصة والموجودة في أوعية - جرادل - الرأس والممتصة من المزابل ومواطن العفن وإعادة إفرازها مغلفة بمواد مخاطية في أماكن أخرى، بدون أي تعديل على مكوناتها الأصلية.

يذكر أن جميع محاولات ترويض كائن سفاف الفول وتغيير نمطه الغذائي من الفول والعدس والبصل والثوم إلى غذاء آخر مثل المن والسلوى قد بائت بالفشل، فهذا الكائن الفقْري – أيضاً بتسكين القاف - لا يرى من نعم الله إلا طبق الفول وفحل البصل، ويعتبر أي محاولة لصرفه عن ما تنبت الأرض وتوجيهه نحو ما تنزل السماء هي محاولة لطعنه في أعز ما يملك .. في بطنه، طبعاً لا أقول طعنه في شرفه لأن كائن سفاف الفول ليس لديه شرف، وإنما يمكن إثارته باستخدام كبسولات معينة وحقنة شرجية تعطي نفس مفعول الثورة للشرف ثم يزول أثرها مع زوال مفعول هذه الأدوية.

وبرغم المحاولات المتعددة لأيضاح مزايا وفوائد العسل الأبيض – المن – أو الطير المشوي المنزلين من السماء لإعادة تأهيل كائن سفاف الفول ورفع كفائته وتعليمه مبادئ الشرف وقيم الكرامة وأخلاق الأحرار، إلا إنه يرفض تماماً إلا أن يتعلق ويطمح إلى ما تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا.

Tuesday, May 15, 2012

أم السعد السكندرية



وهي أم السعد محمد علي نجم الشيخة الحافظة المحفظة المتقنة المعمرة، أشهر امرأة معاصرة في قراءات القرآن الكريم، فهي السيدة الوحيدة التي تخصصت في القراءات العشر، وظلت طوال نصف قرن تمنح إجازاتها في القراءات العشر.

ولدت أم السعد في 11/7/1925م في قرية البندارية مركز تلا بمحافظة المنوفية شمال القاهرة، داهم المرض عينيها ولم تتجاوز العام الأول من عمرها، واتجه أهلها للعلاج الشعبي بالكحل والزيوت التي كانت سببًا في فقدان بصرها بالكلية، وكعادة أهل الريف مع العميان نذرها أهلها لخدمة القرآن الكريم حتى حفظت القرآن الكريم في مدرسة (حسن صبح) بالإسكندرية في الخامسة عشرة. وقد عاشت أم السعد بحارة الشمرلي بحي بحري العريق بالإسكندرية.

بعد أن أتمت أم السعد حفظ القرآن الكريم وهي في الخامسة عشرة من عمرها، ذهبت إلى الشيخة نفيسة بنت أبو العلا - شيخة أهل زمانها كما توصف - لتطلب منها تعلم القراءات العشر، فاشترطت عليها شرطًا وهو ألا تتزوج أبدًا، فقد كانت ترفض بشدة تعليم البنات؛ لأنهن يتزوجن وينشغلن فيهملن القرآن الكريم.

وقد وافقت أم السعد على شرط شيختها التي كانت معروفة بصرامتها وقسوتها على السيدات ككل، وفي رأيها أنهن لا يصلحن لهذه المهمة الشريفة. ومما شجع الشيخة أم السعد على قبول الشرط أن الشيخة "نفيسة" نفسها لم تتزوج رغم كثرة من طلبوها للزواج من الأكابر، وماتت وهي بكر في الثمانين، انقطاعًا للقرآن الكريم.

أتمت أم السعد المهمة الشريفة وحصلت من شيختها "نفيسة" على إجازات في القراءات العشر، وهي في الثالثة والعشرين من عمرها. وتقول أم السعد عن حفظها للقرآن: " ستون عامًا من حفظ القرآن وقراءته ومراجعته جعلتني لا أنسى فيه شيئًا .. فأنا أتذكر كل آية وأعرف سورتها وجزأها وما تتشابه فيه مع غيرها، وكيفية قراءتها بكل القراءات.. أشعر أنني أحفظ القرآن كاسمي تمامًا لا أتخيل أن أنسى منه حرفًا أو أخطئ فيه .. فأنا لا أعرف أي شيء آخر غير القرآن والقراءات .. لم أدرس علمًا أو أسمع درسًا أو أحفظ شيئًا غير القرآن الكريم ومتونه في علوم القراءات والتجويد .. وغير ذلك لا أعرف شيئًا آخر ".

لكن أم السعد تزوجت أقرب تلاميذها إليها وهو الشيخ محمد فريد نعمان الذي كان من أشهر القراء في إذاعة الإسكندرية، وهو صاحب أول إجازة تمنحها أم السعد، وتقول عن قصة زواجها: " لم أستطع الوفاء بالوعد الذي قطعته لشيختي نفيسة بعدم الزواج .. كان يقرأ عليَّ القرآن بالقراءات .. ارتحت له .. كان مثلي ضريرًا وحفظ القرآن الكريم في سنّ مبكرة .. درَّست له خمس سنوات كاملة، وحين أكمل القراءات العشر وأخذ إجازاتها طلب يدي للزواج، فقبلت ".

واستمر زواجهما أربعين سنة كاملة لم تنجب فيها أولادًا .. وتعلق قائلة: " الحمد لله .. أشعر بأن الله تعالى يختار لي الخير دائمًا .. ربما لو أنجبت لانشغلت بالأولاد عن القرآن، وربما نسيته ".

تردد على أم السعد لحفظ القرآن ونيل إجازات القراءات صنوف شتى من جميع الأعمار، والتخصصات، والمستويات الاجتماعية والعلمية، كبار وصغار، رجال ونساء، مهندسون، وأطباء، ومدرسون، وأساتذة جامعات وطلاب في المدارس الثانوية والجامعات... إلخ. وهي تخصص لكل طالب وقتًا، لا يتجاوز ساعة في اليوم يقرأ عليها الطالب ما يحفظه فتصحح له قراءته جزءًا جزءًا حتى يختم القرآن الكريم بإحدى القراءات، وكلما انتهى من قراءة منحته إجازة مكتوبة ومختومة بخاتمها تؤكد فيها أن هذا الطالب " خادم القرآن " قرأ عليها القرآن كاملاً صحيحًا دقيقًا، وفق القراءة التي تمنحه إجازتها.

ويروي عنها من درس على يدها أنها كانت من أرفق المعلمين بطلابها، حتى إنهم ذكروا لها ذلك ذات مرة، فقالت: إنها في صغرها عانت من شدة بعض من درّسوا لها في المدرسة، وكانت ترتاع منهم، فأخذت عهدًا على نفسها أن تتلطف مع من يحفظ معها.

وتقول هي عن تلاميذها: " أتذكر كل واحد منهم، هناك من أعطيته إجازة بقراءة واحدة، وهناك - وهم قليلون - من أخذوا إجازات بالقراءات العشر مختومة بختمي الخاص الذي أحتفظ به معي دائمًا، ولا أسلمه لأحد مهما كانت ثقتي فيه ". وتضيف: " بعضهم انشغل ولم يَعُد يزرني، لكن معظمهم يتصل بي أو يأتي لزيارتي والاطمئنان عليَّ بين الوقت والآخر ".

ومن مشاهير من منحتهم الإجازة القارئ الطبيب "أحمد نعينع" الذي قرأ عليها وأخذ عنها، وكذلك فضيلة الشيخ "مفتاح السلطني"، والذي أجازته الشيخة في القراءات العشر وحفص من الطيبة، وكذا عدد من أساتذة وشيوخ معهد القراءات بالإسكندرية، والذين لا يعطون إجازة في حفظ القرآن إلا ويضعون اسمها في أول السند المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وسند أم السعد برواية حفص عن عاصم عن طريق الشاطبية فيه 27 راوياً يبدأ بها عن شيختها نفيسة بنت أبو العلا عن عبد العزيز علي كحيل وهو قرأ علي عبد الله الدسوقي وهو عن الشيخ علي الحدادي عن شيخ القراء بالديار المصرية الشيخ إبراهيم العبيدي الذي قرأ على شيخ الجامع الأزهر محمد بن حسن السمنودي المنير الذي قرأ على علي الرميلي الذي قرأ على شيخ قراء زمانه محمد بن قاسم البقري الذي قرأ على شيخ قراء مصر عبد الرحمن ابن شحاذة اليمني الذي قرأ على علي بن غانم المقدسي الذي قرأ على محمد بن إبراهيم السمديسي الذي قرأ على الشهاب أحمد بن أسد الأميوطي الذي قرأ على الإمام الحافظ حجة القراء محمد بن محمد بن محمد بن الجزري الشافعي مؤلف النشر والطيبة وغيرهما من المؤلفات وهو قد قرأ على عبد الرحمن بن أحمد البغدادي الذي قرأ على شيخ القراء بمصر محمد بن أحمد الصائغ الذي قرأ على علي بن شجاع الكمال الضرير صهر الإمام الشاطبي الذي قرأ على الإمام أبي القاسم الشاطبي الذي قرأ على الإمام علي بن محمد بن هذيل البلنسي الذي قرأ على أبي داود سليمان بن نجاح الذي قرأ على الإمام أبي عمرو الداني الذي قرأ برواية حفص على طاهر بن غلبون قال قرأت على علي بن محمد الهاشمي قال قرأت على أحمد بن سهل الأشناني قال قرأت على أبي محمد عبيد بن الصباح قال قرأت على حفص بن سليمان الذي قرأ على عاصم ابن بهدلة بن أبي النجود الذي قرأ على أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي الذي أخذ عن عثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وزيد ثابت وأخذ هؤلاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تلقى القرآن عن جبريل عن رب العزة جل شأنه.

توفيت أم السعد في فجر يوم السادس عشر من رمضان من العام 1427هـ الموافق 9/10/2006م عن عمر يناهز واحد وثمانين عامًا، وقد شيعت جنازتها من مسجد ابن خلدون بمنطقة بحري بالإسكندرية وقد شيعها جمع من أفاضل العلماء علي رأسهم فضيلة الشيخ محمد اسماعيل المقدم.

[منقول من صفحة أم السعد على الويكيبيديا]

وداعا أم السعد للشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم

Friday, May 04, 2012

كل شيء هادئ



متعة الخيال هي متعة لا تماثلها متعة، متعة مجانية لا تكلفك إلا ما تستغرقه من حياتك، رصيد يولد مع الانسان، وكأنه كان يشحن هذا الرصيد طوال خلوته بنفسه تسعة أشهر مدة بقائه نقياُ داخل رحم أمه، ليستهلك هذا الرصيد من الخيال في حياته، رصيد يتناقص مع كل شيء، مع مرور الوقت ومع كثرة الاستهلاك ومع الإهمال.

أكثر أوقاتنا التي نمارس فيها التمتع برصيدنا من الخيال هي فترة الطفولة حيث يحلق بنا الخيال إلى عالم عجيب متناقض تقوم فيه قصصنا بذاتها، يخيل لنا قيه أنّا سوبر مان، وأنّا نستطيع تحريك الأشياء بمجرد النظر إليها، نستطيع ان نكون أطباء حتى وإن كان ما نعالجه دمية صغيرة طمس قلم أبينا الحبر معالم الوجه فيها، نستطيع أن نكون مهندسين نبني العمارات وإن كانت عماراتنا من المكعبات، أو طيارين وإن كانت طائراتنا هي كنبة في الصالون أو نختفي خلف ستائر الغرفة وهي ترتفع بفعل تيار الهواء فنتخيلها صاروخاً صاعداً بنا إلى عنان السماء، نستطيع أن نكون مخترعين أفذاذ رغم أن كل ما اخترعناه سفينة ورقية أو طائرة نصنعها من عصي الآيس كريم، نستطيع أن نكون آباء وأمهات بمجرد لعبنا للعبة عريس وعروسة دون تكلفة حيث نمارس طواعية وبسعادة بالغة دور الأب الكادح والأم الغاضبة اللذان يعانيان من أجل سعادة أسرتيهما المكونة من مجموعة من العرائس والدباديب.

ما ان ننتقل إلى عالم المراهقة حتى تتغير طبيعة هذا الخيال القائم بذاته ليتحول إلى خيال يمتزج أكثر بواقع ما حولنا ويعتمد عليه فيبدو وكأن رصيد الخيال لدينا يتناقص في مقابل إدراكنا للواقع وتبدأ عملية ما يسمونه نضجاً، لكننا - ومع هذا النضج - لا نُحرم تماما متعة الخيال، فنظل نحلم بأن الفاتنة ابنة الجيران - التي أصبحت فيما بعد أم السيد - والتي تكبرك بسنوات ستنتظرك حتى تنتهي من دراستك للتتقدم لخطبتها، وأن أباك ولا شك سيحضر لك هدية كبرى عند نجاحك في الثانوية العامة، هدية قد تصل لسيارة مثلاً أو رحلة إلى الخارج لتكمل تعليمك، وأنك إن اجتهدت في دراستك ستكون يوماً ما وزيراً أو رئيساً بعد أن يتم اختيارك لكفائتك وقدراتك المميزة لهذه المناصب المرموقة، ستكون مشهوراً فذاً يشار إليك بالبنان، هذا بالإضافة إلى أن جميع أحلامنا وخيالاتنا في هذه المرحلة لا يفارقها سَننٌ ثابت وضعناه بضرورة الانتصار العاجل للخير على الشر، وعلو القيم والمبادئ على الانحلال والفساد، وحتمية زواج الحبيب بمحبوبته مهما كانت الصعوبات، وانتصار بطل الفيلم الخيّر في النهاية على كل جميع الأشرار فيه.

في مرحلة الشباب يتضاؤل الخيال فينا، فهو لا يقوم بذاته، ولا يرتبط بما حولنا، بل يكون خيالنا حسب ما هو مسموح لنا أن نتخيله ونحلم به، فلا تحلم أن تكون رئيساً بل تخيل أنك وجدت فرصة عمل مناسبة، ولا تتطلع لتكون وكيل نيابة لأنك ببساطة لست من أبناء القضاة ولكن يمكنك أن تحلم أن تكون محامياً ناجحاً، ولا تتحدث عن فتاة مخصوصة لأحلامك بل مسموح لك أن تحلم بالزوجة وفقط، ولا تتمنى السكنى في بيت فسيح بحديقة في ريف جميل فيكفيك ان تتخيل حصولك على شقة صغيرة في أي مكان، لا تنتظر أن تحيا حياة كريمة يكفيك أن تحيا، ولا تنتظر أن تكون قدراتك وما تقدمه للآخرين معيار تقدمك في حياتك وعملك بدلاً من ذلك يمكنك ان تتخيل أن قدراتك تمنحك ثباتاً بدلاً من تأخر محتوم وما تقدمه للآخرين خير ترميه إلى البحر وتنال به الثواب الأخروي، كما أنك تبدأ تتعلم أنه ليس من الضروري أن تحصل على من لا يقدم عليك أحد، فيكفيك من يدعي أنه لا يقدم عليك أحد - إن وجدته -، كل هذا وغيره وانت تنضج على حرارة أمثالنا الجميلة " اللي يبص لفوق يتعب "، " على أد لحافك مد رجليك " وعلى كلمات محمد منير "قبل ما تحلم فوق، احلم وانت فايق .. قبل ما تطلع فوق، انزل للحقايق".

وهكذا يستمر - نتيجة لتزايد خبراتنا في الحياة - زحف الواقع على رصيد الخيال لدينا في كل مرحلة من حياتنا، حتى نصل لمرحلة يتراجع فيها خيالنا وننبذه بل ونتبرأ منه ونهزأ ونخجل منه ومن أنفسنا أن كنا يوماً ما نعيش فيه رغم أمنياتنا المتكررة أن نعود أطفالا أو شباباً لنعيش فيه من جديد، نسخر منه وكأنه لم يكن يوما ما سلوى وحافز لنا، وكأنه لم يأخذ يوما بأيدينا لنرسم بعض ما نحن عليه الآن، وكأنه هو السبب في فشلنا وخيبتنا في الحصول على ما ساعدنا هو على الحلم به والسعي إليه وانتظاره، وكأننا نتهمه بالغدر بنا فنعاقبه على عدم تحقق أحلامنا، ونجعل منه سبة ونحن نمارس دوراً اجتماعياً مورس علينا من قبل فننصح الآخرين: أنت تحيا في الأوهام، لا تكن مريضاً بالخيال، لا تكن رجلاً خيالياً !! .

ورغم أنه ومع رصيد خبراتنا في الحياة أصبح خيالنا جاهزاً ليستخدم على الوجه الأمثل، إلا أننا عند تلك النقطة نفرض حجراً وإقامة جبرية على ما بداخلنا من رصيد باق من هذا الخيال، نحبسه غير مأسوف عليه، رغم أن كل ما يعدنا به الآن أشياء بسيطة لا تتعدى أمنية أن نحيا كراماً، أو أن ننام هانئي البال قريري العين غير حزانى ولا باكين، يعدنا بأذن صاغية تسمع منا شكوانا ويد قوية تأخذ بأيدينا وتمتد لتربت على أكتافنا وتمسح عنا غبار الأيام، وأذرع حانية تحتضنا وتواسينا في المحن محبة منها لا أداء لواجب، ودون طلب منا أو لفت انتباه. يعدنا بقلوب تنظر إلى دواخلنا فتفهم ما نعانيه، وتشاركنا لحظات الفرح والترح، وتحملنا في رضانا وفي سخطنا، ولا تحمّلنا آثامنا ولا خطايانا فضلاً عن خطايا الآخرين، وتشير علينا ماذا نفعل وقت الصعاب وتذكر لنا الخير وتذكرنا - ولو كذباً - بالخير القادم غداً.

أرى أن خيالا مثل هذا لا يمكن أن يتحقق ونحن نخنقه بهذا الجفاف الذي نسميه ظلما نضجاً.