Saturday, August 18, 2007

المحطة الرابعة : تدوين السنة

حمل الرومان بعد رفع المسيح عليه السلام على اتباعه من المسيحيين حملة شديدة وتعرضت المسيحية في تلك الفترة للإضطهاد من أباطرة الرومان أذاقوا خلالها المسيحيين العذاب بكافة ألوانه .. واستمر هذا الاضطهاد قرابة الثلاثمائة عام صدرت خلالها المراسيم التي تحث على اضهاد المسيحين واستمرت حتى عصر الامبراطور الروماني دقلديانوس الذي أمر بحرق الأناجيل والكتابات المسيحية ومنع المسيحيين من التجمع أو القيام بأى صلوات أو طقوس دينية , و قتل كل الرجال و النساء والأولاد الذين يرفضون تقديم القرابين للآلهة الرومانية.

لذلك لم يستطع أتباع المسيحية تدوين الأنجيل من فم المسيح مباشرة .. لأن هذه الكتابات كانت أوراق تدين حاملها وتعرضها للتنكيل من قبل الرومان .. لذلك لم يتم تدوين الأناجيل مباشرة وإنما تم تسجيلها من خلال تعاليم تلاميذ المسيح عليه السلام والذين يطلق عليهم في المسيحية الرسل

يقول ديورانت في كتابه قصة الحضارة : أن الأناجيل كتبت بين عامي 60 و 120 ميلادية وأن تلك الأناجيل فقدت وأن أقدم النسخ التي لدى الكنيسة ترجع إلى القرن الثالث مع ما اعتراها تحريفات في النقل والترجمة مقصودة أو غير مقصودة وتعرضت الأصول المكتوبة إلى أخطاء في النقل والنسخ المقصود وغير المقصود

وحتى بعدما استطاع المسيحيين كتابة أول أناجيلهم بعد 30 عام من رفع المسيح لم يكن الأمر بالصورة المرجوة فقد كان أكبر المبشرين بالمسيحية وأحد أعمدتها ومؤسس شريعتها هو بولس الذي لم يقابل المسيح عليه السلام بل كان هو نفسه أحد المحاربين للمسيحية وساهم في السطو على الكنائس و في اتهام أتباع المسيح بالزندقة و تعذيبهم وسجنهم ولكنه آمن بالمسيحية بعد سنوات من رفع المسيح .. ورغم أنه لا يعتبر رسول لأنه لم يختاره المسيح تلميذا له إلا أنه كان يدافع عن نفسه وعن رسالته بقوله أن الرب بنفسه قد اختاره

وبحسب رأي الكثيرين فإن بولس لعقيدته اليهودية وتأثره بالأفكار الرومانية قد أدخل الكثير على الديانة المسيحية مما لا يمت لها بصلة مستوحيا ذلك من خلفيته الدينية السابقة .. حتى سماه البعض مفسد إنجيل يسوع

و ترجع شهرة بولس إلى تطويره لأصول الشريعة المسيحية. فمن بين السبعة و العشرين سفراً من كتاب " العهد الجديد " نجد أن بولس قد ألف أربعة عشر سفراً


هذه الظروف التي نتحدث عنها في نشأة المسيحية مختلفة تماماً عن بداية الإسلام .. لكن كثيرا ممن يتبعون منهج لازم تلبس القضية يصروا على تخيل إن الإسلام مر بنفس المرحلة التي مرت بها المسيحية وأن تدوين شرائع الإسلام - السنة النبوية - لم يكن إلا بعد مائة عام من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مستدلين على ذلك بما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه تعليقا .. قال: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم. انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا ....

مع ما وصل إليهم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم : لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار [صحيح مسلم]

إضافة إلى الخبر بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكر أن يجمع السنة كما أشار بجمع القرآن إلا إنه تراجع عن ذلك مخافة انصراف الناس عن كتاب الله

فخلطوا بين الجمع في دواوين خاصة وبين التدوين في صحف وظنوا وخيل لهم أن النهي عن الكتابة استمر منذ نهى النبي وحتى عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز .. وهذا خطأ كبير من وجهين

الأول ..

أن عمر بن عبد العزيز لما أصدر الأمر لم يأمر بالجمع من صدور الرجال وحسب ولكن من الصحف والأصول المكتوبة من قبل والتي كانت منتشرة ولكن لم يتم جمعها حتى عهده فأراد حفظها بجمعها في دواوين خاصة .. فكان فعله رضي الله عنه كفعل أبي بكر رضي الله عنهما لما جمع القرآن من الصحف وجعلها في كتاب واحد


الثاني ..

توارد الأخبار بالكتابة التي كانت تتم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى في بداية نزول الوحي مخافة أن يختلط القرآن بالحديث على العرب فلا يعرفوا القرآن من الحديث .. وخاصة أن في بداية الوحي لم يكن هناك تشريع يحتاج لتفصيل من النبي وكان القرآن وحده يكفي لتأسيس عقيدة التوحيد في النفوس ..

فلما بدأ العهد المدني وبدأت الأحكام تتنزل وتحتاج لتفصيل وشرح من النبي مع تميز القرآن وأسلوبه عن كلام النبي صلى الله عليه وسلم سمح النبي عندها بالكتابة بل وأمر به في بعض الأحيان

فقد روى البخاري في صحيحه أنه لما فتح الله تعالى مكة للمسلمين خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقام رجل من أهل اليمن اسمه أبو شاه، وقال: يا رسول الله، اكتبوا لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اكتبوا لأبي فلان "، يقصد أبا شاه

وكذلك روى الإمام أحمد بسنده إلى عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق " .[صحيح]

والشاهد هنا أن المنكرون على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما لم ينكروا الكتابة وإنما أنكروا عليه كتابة كل شيء .. فتأمل

وعن أبي قبيل قال كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص ، و سئل أي المدينتين تفتح أولا القسطنطينية أو رومية ؟ فدعا عبد الله بصندوق له حلق ، قال : فأخرج منه كتابا قال : فقال عبد الله : بينما نحن حول رسول الله نكتب ، إذ سئل رسول الله : أى المدينتين تفتح أولا القسطنطينية أو رومية ؟ فقال رسول الله : مدينة هرقل تفتح أولا : يعني قسطنطينية [السلسلة الصحيحة]

والشاهد هنا قوله نكتب وفيه إشارة أنه لم يكن وحده من يكتب حديث النبي بل كان هناك غيره

وعن عبد الله بن حوالة الأزدي قال : أتيت رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وهو جالس في ظل دومة ، وعنده كاتب له يملي فقال : ألا أكتبك يا ابن حوالة ؟ قلت : لا أدري ما خار الله لي ورسوله ، فأعرض عني فأكب على كاتبه يملي عليه ثم قال : أنكتبك يا ابن حوالة ؟ قلت : لا أدري ما خار الله لي ورسوله فأعرض عني فأكب على كاتبه يملي عليه قال : فنظرت فإذا في الكتاب عمر فقلت : إن عمر لا يكتب إلا في خير ثم قال : أنكتبك يا ابن حوالة ؟ قلت : نعم . [صحيح بحسب الدرر السنية]

وكان لعبد الله بن عمرو صحيفته التي كتب فيها أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي سمعها منها وكان يسميها الصادقة

وكان لجابر بن عبد الله الأنصاري صحيفة ، وكذلك أنس بن مالك كانت له صحيفة وكان يبرزها إذا اجتمع الناس .

وكان لعلي بن أبي طالب صحيفة صغيرة تشتمل على الأحاديث التي تبين مقادير الديات

وكتب أبو بكر رضي الله عنه عن النبي كتاب الزكاة والديات.

للإطلاع على المزيد من الصحف وكتابات الصحابة للسنة قبل بدأ التجميع الذي قام بأمر من الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله


بقى أن نقول أن العرب لم يكن يحفظون في العادة بالكتابة وكان نعمة الحفظ في الصدور عندهم من شيم رجاحة العقل وصفاء الذهن في الرجال والنساء ولو لم يكن هناك تدوين للسنة بالكتابة لكفى حفظهم الذي في الصدور .. ولكن لحرصهم رضوان الله عليهم على إيصال الخير لغيرهم فقد رافق حفظهم في الصدور التدوين الكتابي المذكور والذي بدأ من عهد النبي صلى الله عليه وسلم


8 comments:

عصفور المدينة said...

بارك الله في جهدكم
والنقطة المذكورة أخيرا وهي خاصية الحفظ في الصدور أيضا مزية لهذه الأمة وكزية لهذا الوحي وهي من تيسير الذكر
إذا ما انضم إليها الإسناد واتصاله والجرح والتعديل
وأيضا كون النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم
لو قارنت مثلا بين دعاء اللهم إنت ربي (سيد الاستغفار
وأي دعاء آخر ورد في حديث موضوع أو حتى من دعاء البشر العاديين وحاول تحفظ هذا وذاك وقارن

أكرمك الله
وأذكر نفسي والقارئين بالغرض من هذه السلسلة المباركة وهو
الوصول لقبول أحاديث الرسول
والذي يترسخ في النفس بمعرفة أهمية السنة ومصداقيتها

Anonymous said...

الله اكبر

لحظة said...

جزاكم الله خيرا على هذا العلم المنير والمفيد
شكرا لزيارتك ومباركتك على الشات بوكس

رفقة عمر said...

ايوة الموضوع كان مفهوم
والله وانت عارف لما مش بفهم حاجه بقولك
بالنسبه للمراحله التدوين
انا كنت سمعت ان كل من عاصر القرن الاول من للدوله الاسلاميه يعتبر صحابى لان الصحابى كل من راى الرسول حتى ولوكان سنه خمس او 6 سنين
بدليل حديث يا غلام
كان سيدنا انس كان صغير وهو بيروى الحديث دة
وزى ما انت بتقول كان العرب لهم قدرة كبيره على الحفظ بدليل المعلقات اللى كانوا بيحفظوها عن ظهر قلب
فمابالك كلام الرسول المبسط اللى يفهمه اى حد
على فكرة انا كمان مش عايزاك تغير شكل النعامه لانى لما اجد اى تعليق بماعلينا لازم ادور على النعامه الاول بس انا لاقيتك بتقول لامانى عايز لوجو جديد للنعامه فقلت ابعا لك الصور دى للنعامه
يعنى لو نزل تصويت هانزل تصويت للنعامه اللى بتحب الرمل قوى دى

أمــانــى said...

بسم الله مشاء الله
ايوا كده
فينك بس من زمان
واوعى تزعل من التعليقات القليلة يمكن يكونوا مش عارفين يقولوا ايه وياريت تسيب الموضوع شوية علشان الناس تلحق تقراه حتى لو مفيش تعليق
ده طبــعآ بعد اذن حضرتك
ربنا يجعله فى ميزان حســـــــناتك يااااااااااااااارب آمــــــــــــــين

البنت الشلبية said...

سلام عليكم
ازيك يا ماعلينا عامل ايه
بجد ربنا يبارك فيك ويكرمك انت بالبوست ده عملت حاجتين
اولا رديت على الناس الملحدين والمشككين
ثانيا افدتنى انا شخصيا بالاحاديث واستمتعت بالاسلوب فى كتابة البوست
شكرا ليك

إيمان الحسيني said...

ما شاء الله لا قوة إلا بالله
ربنا يبارك فيك يا أخي الكريم
اللهم آمين

BinO said...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله في يمينك
تذكرني بأحد محاضرات الشيخ شهاب بمسجد الهداية
طبعاً تعرفه
وكان يتكلم عن التدوين
وتدرج في شرح كيفية تدوين السنة بطريقة تشبه طريقتك المتميزة في السرد
وتوظيف الأحداث
تسلم أيديك
أخي العزيز